قصة time Immigrant ل تسيشين ليو - مترجم



أين تلك العصور التي مضت قبلي ؟

وأين الأجيال القادمة بعدي ؟

أفكر في سماء وفي أرض ،  لا حدود لها ولا نهاية

وأنا دمعي وحيدا ينزل 

قصيدة ل  تشين زيانج(661–702)



* * *


الهجرة


رسالة عامة لجميع الناس ، نظرا للضغوط البيئية والسكانية التي لا يمكن تحملها ، اضطرت الحكومة إلى القيام بهجرة زمنية. أول مجموعة سيكون قوامها 80 مليون مهاجر عبر الزمن ستهاجر لمدة 120 سنة.


كانت السفيرة آخر من غادر. وقفت على أرض فارغة أمام مستودع تبريد ضخم ضم أربعمائة ألف شخص مجمد، مثلما حدث مع  مائتي مستودع آخر مثله في جميع أنحاء العالم. فكرت السفير في قشعريرة ، ليست سوي قبور.


لم يذهب  هوا معها. رغم استيفائه جميع شروط الهجرة وامتلاكه بطاقة هجرة مرغوب بها ، إلا أنه شعر بارتباطه بالعالم الحالي ، على عكس أولئك ممن اتجهوا نحو حياة جديدة في المستقبل. سيبقى ويترك السفيرة تسافر 120 عامًا بمفردها.


انطلقت السفيرة بعد ساعة ، مغمورة بالهيليوم السائل الذي جمد حياتها قرب درجة الصفر المطلق ، لتقود ثمانين مليون شخص في رحلة بطول درب الزمن


 * * *


الرحلة


خارج  إدراك الزمن الذي يتخطاهم ، اجتاحت الشمس السماء كالشهب  ، الولادة والحب والموت والفرح والحزن والخسارة والسعي والكفاح والفشل ، وكل شيء آخر من العالم الخارجي يصرخ وهو يمر بجانبهم مثل قطار شحن ...


... 10 سنوات ... 20 سنة ... 40 سنة ... 60 سنة ... 80 سنة ... 100 سنة ... 120 سنة.


محطة التوقف رقم 1 : العصر المظلم


تجمد الوعي كما الجسد أثناء النوم الخارق بدرجة الصفر المطلق، تاركًا الوقت وجوده غير محسوس حتى استيقظت السفيرة ولديها انطباع بأن نظام التبريد قد تعطل والجليد قد ذاب بعد وقت قصير من رحلتها. لكن ابلغتها شاشة البلازما العملاقة للساعة الذرية أن 120 عامًا مرت ، عمر ونصف ، مما جعلهم منفيين في الزمن


استيقظ الأسبوع الماضي  فريق استطلاع من مائة شخص  لإجراء التواصل. وقائدهم يقف الآن بجانب السفيرة ، التي لم يشف جسدها بعد بما يكفي كي تتحدث. ومع ذلك ، فإن نظرتها المستفسرة لم تلق سوى هزة في الرأس وابتسامة متكلفة من قبل القبطان.


جاء رئيس الدولة إلى قاعة مستودع التبريد ليرحب بهم. وقد بدا متعبًا من الطقس ، وكذلك حاشيته ، وقد كانت مفاجأة بعض الشيء بعد 120 عامًا في المستقبل. قامت السفيرة بتسليم رسالة من حكومة عصرها ونقلت تحيات شعبها. قال الرئيس القليل ، ولكنه شد علي يد السفيرة بإحكام. يد قاسية مثل وجهه ، أعطت للسفيرة إحساسًا بأن الأمور لم تتغير بالقدر الذي كانت تتخيله. وقد اشعرها ذلك بالألفة


لكن الشعور تلاشى في اللحظة التي غادرت فيها مستودع التبريد. كان العالم بالخارج كله أسود اللون، أرض سوداء ، وأشجار سوداء ، ونهر أسود ، وغيوم سوداء. والحوامة التي ركبوها تحوم بين غبار اسود ، شكلت الدبابات القادمة  خطًا من بقع سوداء تتحرك بطول الطريق ، ومجموعات طائرات هليكوبتر تحلق على ارتفاع منخفض وقد بدت  كمجموعات من الأشباح السوداء ، واكثر من ذلك منذ أن حلقت بصمت. الأرض وكأنها محترقة بنار من السماء. اجتازوا حفرة ضخمة بحجم منجم مفتوح من عصر السفيرة.


"حفرة إنفجار."


"أهي نتيجة ... قنبلة؟" قالت السفير وهي غير قادرة على قول الكلمة.


"نعم. ، حوالي خمسة عشر كيلوطنًا" قال رئيس الدولة باستخفاف  كما لو أن البؤس امرا عاديًا بالنسبة له.


ازدادت ثقل أجواء المقابلة متقاطعة الازمنة 


"متى بدأت الحرب؟"


"تلك؟ منذ عامين."


"تلك؟"


"كان هناك القليل منها منذ ان غادرتم."


ثم بدل الموضوع. لم يبدو شابا من المستقبل بل كشيخ ينتمي لعصر السفيرة ، شخص يظهر في مواقع العمل أو الحقول ليأخذ كل المشاق بين ذراعيه ، دون أن يفلت منه شئ. "سوف نقبل جميع المهاجرين ، وسنضمن عيشهم  في سلام".


"هل هذا ممكن في ظل الظروف الحالية؟"  سئل شخص كان يرافق السفيرة ، التي ظلت صامتة.


الإدارة الحالية والشعب بأكمله سيفعلون كل ما في وسعهم لتحقيق ذلك. هذا هو واجبنا ، وبالطبع ، يجب على المهاجرين بذل قصارى جهدهم للتكيف. قد يكون ذلك صعبًا ، نظرًا للتغييرات الجوهرية على مدى مائة وعشرين عامًا ".


سألت السفيرة "أي نوع من التغييرات؟ ، اما زالت هناك حرب ، ما زالت هناك مذابح ..."


قال جنرال ذو  زي رسمي "أنت ترى السطح فقط .  خذي الحرب على سبيل المثال. إليك كيف يتقاتل البلدان هذه الأيام. أولاً ، يعلنون عن نوع وكمية جميع أسلحتهم التكتيكية والاستراتيجية. ثم يمكن للكمبيوتر تحديد نتيجة الحرب وفقًا لمعدلات التدمير المتبادلة. و الأسلحة للردع فقط ولا تستخدم أبدًا. اما الحرب فتنفيذ حاسوبي لنموذج رياضي ، تحدد نتائجه المنتصر والخاسر ".


"وكيف يجري حساب معدلات التدمير المتبادل؟"


"بواسطة منظمة اختبار الأسلحة العالمية" كما كانت منظمة التجارة العالمية في عصرك  ... "


"الحرب منتظمة ومنظمة مثل الاقتصاد؟"


"الحرب هي الاقتصاد".


نظرت السفيرة عبر نافذة السيارة إلى العالم الأسود. "لكن العالم لا يبدو وكأن الحرب مجرد حسابات."


نظر رئيس الدولة إلى السفيرة بعيون مثقلة . "نجري الحسابات ولكننا لا نصدق النتائج".


 قال الجنرال "لذ اجرينا حربا  كالتي  تعرفوها. واريق الدماء. حرب حقيقية".


غير الرئيس الموضوع مرة أخرى. "سنذهب إلى العاصمة الآن لدراسة القضايا المتعلقة بفك تجميد المهاجرين."


قالت السفيرة "عودوا بنا  إلى مستودع التجميد".


"ماذا؟"


"عُد. لا يمكنك تحمل أعباء إضافية ، وهذا ليس بالعصر المناسب للمهاجرين. سنمضي قدما قليلا ".


عادت الحوامة إلى مستودع التبريد رقم 1. وقبل أن تغادر ، سلم الرئيس للسفيرة كتاباً ذو غلاف مقوي. قال "قصة مائة وعشرين سنة الماضية".


ثم قاد مسؤول حكومي رجلاً يبلغ من العمر 123 عامًا ، وهو الشخص الوحيد المعروف انه عاش منذ زمن المهاجرين ، وقد أصر على مقابلة السفيرة . "حدثت أشياء كثيرة بعد مغادرتك. الكثير من الأشياء!" أحضر الرجل العجوز وعاءين من عصر السفيرة وملأهما حتى حوافهما بالخمر. والداي من ضمن مهاجرين. وفد تركوا لي هذا حين كنت في الثالثة من عمري لأشرب معهم حين يفك تجميدهم . لكني الآن لن أراهم. وأنا آخر شخص من عصرك ستريه".


بعد أن شربوا ، نظرت السفيرة في عيون الرجل الجافة ، وما ان سألت نفسها لم يبدو علي اهل هذا العصر انهم لا يبكون ! ، بدأ المسن يزرف الدموع. وركع علي كبتيه وهو يقبض بيد السفيرة.


"اعتني بنفسك  يا سيدتي . في غرب يانج باس ، لم يعد هناك أيا من الأصدقاء القدام


قبل ان تشعر السفيرة بالتجميد فائق البرودة للهليوم السائل ، ظهر فجأة زوجها بين شذرات وعيها ، وقف هوا علي ورق الشجر المتساقط في الخريف ، وثم اسودت تلك الأوراق ، ثم ظهر شاهد قبر ، هل هذا قبره ؟



الرحلة


120  سنة ... 130 سنة ... 150 سنة ... 180 سنة ... 200 سنة ... 250 سنة ... 300 سنة .. 350 سنة ... 400 سنة ... 500 سنة ... 620 سنة .


محطة التوقف رقم  2 : عصر الردهة


سألت السفيرة وهي تنظر متفاجأة الي الساعة الذرية "لما انتظرت طويلا جدا لتوقظني ؟"قال قائد فريق الاستطلاع "حشد فريق الاستطلاع خمس مرات علي فترات متتابعة خلال هذا  القرن حتي انهم ظلوا عقدا مستيقظين في فترة منها ، لكننا لم نوقظك لان الهجرة لم تكن ممكنة ابدا . انت بنفسك من وضعت هذه القاعدة " لاحظت السفيرة انه صار اكبر سنا عن اللقاء السابق بشكل ملحوظ  


"أكان هناك مزيد من الحروب؟"


"كلا، لقد انتهت الحرب إلى الأبد. ورغم أن البيئة استمرت في التدهور خلال القرون الثلاثة الأولى ، إلا أنها بدأت في الانتعاش منذ مائتي عاما مضت .في المرتين السابقين رفض قبول المهاجرين ، ولكن هذا العصر  وافق علي قبولهم  . القرار النهائي متروك لك وللّجنة


لم يكن هناك اي احد في متسودع التجميد .وحين فتح الباب الضخم بصوت دمدمة ، همس قائد الفريق للسفيرة "ان التغيرات اكبر بكثير عن تخيلك ، هيئي نفسك"


عندما خطت السفيرة خطوتها الأولى إلى العصر الجديد ، بدت نغمة مؤلمة ، مثل بعض أصوات الريح القديمة. رأت في أعماق الأرض البلورية تحت قدميها عرض للضوء والظلال. بدت الارضية البلورية صلبة ، لكنها كانت ناعمة مثل سجادة تحت الأقدام ، وكل خطوة تولد نغمة رنين الريح تلك مرسلة هالات لونية متحدة المركز تتوسع من نقطة التلامس ، كأنها تموجات على مياه ساكنة. كانت الأرض علي امتدادها مستوية بلورية قدر ما يمكن للعين أن تراه.


" الأرض كلها غطت بتلك المادة. العالم كله يبدو مصطنعًا "، قال قائد الفريق ، وضحك على تعبير السفيرة المذهول ، وكأنه يقول ، هذه المفاجأة هي البداية فقط! كما رأت السفيرة ظلها فوق الارض البلورية - أو بالأحرى الظلال - ينتشر منها في كل الاتجاهات. رفعت بصرها …


"ستة شموس."


"إنه منتصف الليل ، ولكن الليل لم يعد له وجود منذ مائتي عام. ما تراه هو ست مرايا ، مساحة كل منها مئات الكيلومترات المربعة ، في مدار متزامن لتعكس ضوء الشمس على الجانب المظلم من الأرض ".


"والجبال؟" أدركك السفيرة أن خط الجبال في الأفق لا يمكن رؤيته في أي مكان. كان الخط الفاصل بين الأرض والسماء مستقيماً.


"لا يوجد أي شيء. لقد سويت ، كل القارات أصبحت الآن سهولًا منبسطة. "


"لماذا؟"


"لا أعرف."


بالنسبة للسفيرة ، كانت الشموس الست مثل ست مصابيح ترحيبية في بهو فندق مشرق. بهو ! برزت الفكرة في عقلها. لقد أدركت أن هذا عصرًا نظيفًا بشكل غريب. لا غبار في أي مكان ، ولا حتى ذرة منها. فكان امر يستعصي علي الفهم  . كانت الأرض عارية مثل طاولة ضخمة. كما كانت السماء نظيفة ، مشرقة بلون أزرق نقي ، رغم أن وجود الشموس الست قلل من عرضها وعمقها السابقين ، بحيث أصبحت أشبه بقبة الردهة. ردهة! تبلورت فكرتها الغامضة: لقد تحول العالم بأسره إلى بهو. مغطى بسجاد من الكريستال المتلألئ ومضاء بستة مصابيح معلقة. كان هذا عصرًا نقيًا ورائعًا ، يتناقض بشكل صارخ مع الظلام السابق. وسيعرف في  سجلات تأريخ المهاجرين بعصر الردهة.


"ألم يأتوا لاستقبالنا؟" سألت السفيرة وهي تحدق في السهل الواسع.


علينا أن نزورهم بانفسنا في العاصمة. فرغم مظهره الأنيق ، إلا أنه عصر يفتقر الي المراعاة و حتي  الفضول الأساسي ".


"ما هو موقفهم من الهجرة؟"


إنهم يوافقون على قبول المهاجرين ، لكن لا يمكنهم العيش إلا في محميات منفصلة عن المجتمع. سواء كانت هذه المحميات ستقام على الأرض أو على كواكب أخرى ، أو إن كان علينا بناء مدينة فضائية ، فإن الأمر متروك لنا ".


"هذا غير مقبول على الإطلاق!" قالت السفيرة بغضب. يجب دمج جميع المهاجرين في المجتمع والحياة الحديثة. لا يمكن أن يكون المهاجرون مواطنين من الدرجة الثانية. هذا هو المبدأ الأساسي للهجرة عبر الزمن ! "


"مستحيل".


"هذا هو موقفهم؟"


"وكذلك انا. لكن اسمحي لي أن أنهي كلامي. لقد فك تجميدك للتو ، لكني أعيش في هذا العصر منذ أكثر من نصف عام. من فضلك صدقني ، الحياة أغرب بكثير مما تعتقدي. حتى في خيالك الأكثر جموحًا ، لن تحلمي أبدًا بعُشر الحياة التي في هذا العصر. سيكون لدى البدائيون في العصر الحجري فرصة أسهل في فهم عصرنا  الذي أتينا منه ، عنا منه ! "


“تم أخذ هذه المسألة في الاعتبار قبل بدء الهجرة ، ولهذا السبب تم تحديد عمر المهاجرين في سن الخامسة والعشرين. سنبذل قصارى جهدنا في دراسة الامر والتكيف مع كل شيء! "


"دراسة الامر؟" هز رأسه بابتسامة. "هل لديك كتاب؟" وأشار إلى أمتعة السفيرة. "أي واحد منهم سيفي بالغرض." في حيرة ، أخرجت السفيرة نسخة من Frigate Pallada لإيفان ألكساندروفيتش غونشاروف ، والتي كفت عن قرائتها قبل الهجرة. نظر  إلى عنوانه وقال ، "افتحي اي صفحة عشوائيًا وأخبريني برقمها." فتحت  السفيرة الصفحة 239. ودون أن ينظر ، أتلي ما رآه الملاح في إفريقيا ، بدقة 


"أترى؟ ليست هناك حاجة للتعلم على الإطلاق. إنهم يجلبوا المعرفة مباشرة إلى المخ ، مثل الطريقة التي اعتدنا عليها في نسخ البيانات على محركات الأقراص الصلبة. فوصلت ذاكرة الإنسان إلى ذروتها. وإذا لم يكن ذلك كافيًا ، فألقي نظرة على هذا"  أخذ شيئًا بحجم سماعة الأذن من خلف أذنه. "يمكن لوحدة الذاكرة الكمية تخزين جميع الكتب في تاريخ البشرية - وصولاً إلى آخر قصاصة من ورق الملاحظات ، إن رغب في ذلك. يمكن للدماغ استرجاع المعلومات مثل الكمبيوتر ، وهو أسرع بكثير من ذاكرة الدماغ. ألا ترى؟ أنا وعاء لكل المعرفة البشرية. إن رغبتي  في الحصول عليها  ، يمكنك ذلك في أقل من ساعة.  صار التعلم بالنسبة لهم طقس قديم غامض وغير مفهوم ".


"إذن أطفالهم يكتسبون كل المعرفة لحظة ولادتهم؟"


"أطفال؟" ضحك القبطان مرة أخرى. "ليس لديهم أطفال."


"إذن أين الأطفال؟"


"هل ذكرت أن العائلات اختفت منذ فترة طويلة؟"


"تقصد ، هم الجيل الأخير؟"


"الجيل لم يعد مفهوما موجودًا لديهم ".


تحولت دهشة السفيرة إلى حيرة، لكنها جاهدت لتفهم. وحاولت قليلا. "تقصد أنهم يعيشون إلى الأبد؟"


"عندما يفشل أحد أعضاء الجسم ، يتم استبداله بآخر جديد. وحين يفشل المخ ، تنسخ معلوماته في عملية زرع المخ . وبعد عدة قرون من الاستبدال ، تصير الذاكرة كل ما تبقى للفرد. فمن الذي سيقول ان كانوا صغارًا أم كبار السن! ربما يرون أنفسهم  كبار السن ، ولهذا السبب لم يأتوا لمقابلتنا. بالطبع ، يمكن أن يكون لديهم أطفال إذا رغبوا في ذلك ، عن طريق الاستنساخ أو بالطريقة القديمة. لكن القليل منهم يفعل ذلك. لقد عاش هذا الجيل لأكثر من ثلاثمائة عام وسيواصل ذلك. هل يمكنك أن تتخيل كيف يحدد هذا شكل مجتمعهم؟ المعرفة والجمال وطول العمر التي حلمنا بها يمكن تحقيقها بسهولة في هذا العصر ".


"يبدو أنه المجتمع المثالي. ماذا يريدون ولكن لا يستطيعون تحقيقه؟ "


"لا شئ. لكن للدقة  بسبب انهم أمتلكوا  كل شيء فقد فقدوا كل شيء. من الصعب علينا أن نفهم ، لكن بالنسبة لهم هذا مصدر قلق حقيقي. هذا أبعد ما يكون عن مجتمع مثالي ".


تحول حيرة السفيرة الى تأمل. كانت الشموس الستة تتجه غربًا وسرعان ما اختفت تحت الأفق. عندها بقي اثنان فقط ، ارتفعت كوكب الزهرة ، ثم انتشرت أشعة فجر الشمس الحقيقية من الشرق. ومنح ضوئها اللطيف للسفيرة نوعا من الراحة. فعلى الأقل بعض الأشياء لم تتغير في الكون.


"خمسمائة سنة ليست بزمن طويل. لماذا تغيرت الأمور كثيرا؟ " طرحت سؤالها علي العالم أجمع مثلما طرحته عليه


"تسارع التقدم البشري. قارني خمسين عامًا من التقدم بالقرون الخمسة الماضية. لقد مرت خمسة قرون أخرى ، وربما قد تساوي خمسين ألف عام. هل ما زلت تعتقدي أن المهاجرين يمكنهم التكيف؟ "


"وما هي نقطة نهاية هذا التسارع؟" سأل السفيرة وضاقت العيون.


"لا أعرف."


"ألا توجد إجابة على هذا السؤال في كل المعرفة البشرية التي تمتلكها؟"


"أقوى شعور مررت به اثناء الوقت الذي أمضيته في هذا العصر هو أننا تجاوزنا الزمن الذي يمكن للمعرفة أن تشرح فيه كل شيء."


"حسنا ، سنستمر في السفر إلى الأمام!" قالت السفيرة مقررة . "خذ هذه الشريحة معك ، بالإضافة إلى أجهزتهم في زرع المعرفة في الدماغ."


شاهدت السفيرة هوا مرة أخرى قبل أن تدخل في ضباب النوم الخارق ، مجرد لمحة بعد 620 عامًا ، ونظرة آسرة مفجعة ، لكنها  أرستها في بيتها اثناء مرور الزمن،   حلمت بسحابة غبار تتساقط على الأرض الكريستالية - أهذا هو ما صارت عليه عظامه الآن؟


************


الرحلة


بعيدا عن الإدراك والوعي ، اجتاحت الشمس السماء كما النيازك ، والزمن يتخطاهم في العالم الخارجي.


... 620 سنة ... 650 سنة ... 700 سنة ... 750 سنة ... 800 سنة ... 850 سنة ... 900 سنة ... 950 سنة ... 1،000 سنة.


محطة التوقف رقم 3: العصر الا مرئي


كان باب  مستودع التجميد المحكم الغلق يفتح في ضجيج ودمدمة ، وللمرة الثالثة اقترب السفيرة من عتبة عصر غير معروف. هذه المرة أعدت نفسها ذهنيًا لعصر جديد تمامًا ، لكنها اكتشفت أن التغييرات لم تكن بالقدر الذي كانت تتخيله.


كانت السجادة البلورية التي غطت الأرض لا تزال موجودة والشموس الست ما زالت تتألق في السماء. لكن الانطباع الذي اخذته من هذا العالم كان مختلفًا تمامًا عن عصر البهو. بداية ، بدت السجادة البلورية  خامة ،  رغم  أنه مازال هناك ضوء في أعماقها ، إلا أنه أكثر قتامة ، ولم تعد الخطوات ترن على سطحه ، او  تظهر أنماط رائعة. أربعة من الشموس الست كانت قاتمة ، ذات لون أحمر باهت ينبعث منها يساعد فقط في تحديد موقعهم ولكنهم لا يفعلون شيئًا لإضاءة العالم أدناه. كان التغيير الأكثر وضوحا هو الغبار. غطت طبقة رقيقة كل الارض الكريستالية ، ولم تكن السماء خالية من البقع ، بل محاطة بسحب رمادية ، ولم يعد الأفق خطاً مستقيما. ساهم كل ذلك في الشعور بأن بهو العصر السابق قد أصبح شاغرًا ، ومعالم  الطبيعة  بدأت في الغزو.


قال قائد فريق الاستطلاع "كلا العالمين يرفضان استقبال المهاجرين".


"كلا العالمين؟"


"العالم المرئي واللا مرئي. العالم المرئي وهو الذي نعرفه ، رغم أنه قد يكون مختلفًا. به أناس مثلنا ، حتى وان لم يعد معظمهم مكونًا بشكل أساسي من مواد عضوية ".


قالت السفيرة وهي  وتجهد النظر  "لا يمكن رؤية احد علي امتداد السهل ، مثلما حدث في المرة السابقة".


"لم يعد الناس منذ مئات السنين بحاجة للسير على الأرض .انظري - "أشار القائد إلى موضعا في السماء ، حيث رأت السفيرة ، عبر الغبار والغيوم ، أجسامًا طائرة غير واضحة ، أكبر بقليل من مجموعة نقاط سوداء على هذه المسافة. "قد يكونوا طائرات أو أشخاصًا. قد تكون أي آلة  هي جسد شخص ما. على سبيل المثال ، يمكن أن تكون سفينة في المحيط جسماً ، وريما قد تكون  شريحة ذاكرة كمبيوتر نسخة من دماغ بشري. يمتلك الناس عمومًا العديد من الأجسام ، أحدهم يشبه أجسامنا. وهذا ، رغم أنه أكثر هشاشة ، إلا أنه الأكثر أهمية ، ربما بسبب الحنين إلى الماضي ".


"أهذا حلم ؟" غمغمت السفيرة 


"بالمقارنة مع هذا العالم المرئي ، فإن العالم اللا مرئي هو الحلم الحقيقي."


"لدي فكرة عما قد يكون. لا يستخدم الناس حتى آلات كأجساد ".


"صحيح يتم تخزين العالم اللا مرئي في كمبيوتر عملاق ، وكل فرد هو برنامج ".


أشار قائد الفريق إلى قمة معدنية  زرقاء اللون تتلألأ في ضوء الشمس تقف وحيدة في الأفق. "هذه قارة في العالم اللا مرئي. هل تتذكري رقاقات الذاكرة الكمية الصغيرة من المرة السابقة؟ إنه جبل كامل منها. يمكنك أن تتخيلي ، أو ربما لا يمكنك ، سعة هذا الكمبيوتر ".


"أي نوع من الحياة هذا بداخله  ، والناس ليسوا أكثر من  نبضات كمية؟"


"لهذا السبب يمكنك أن تفعلي ما يحلو لك ، وأن صنع ما تريدي. يمكنك بناء إمبراطورية من مائة مليار شخص والحكم كملك ، أو يمكنك تجربة ألف قصة حب مختلفة ، أو القتال في عشرة آلاف حرب والموت مائة ألف مرة. الجميع سيد عالمهم الخاص ، وأقوى من الرب. يمكنك حتى إنشاء كون خاص بك به مليارات المجرات تحتوي علي مليارات الكواكب  ، كل منها يمكن أن يكون أي عالم تريده ، أو الذي لا يجرؤ على الرغبة فيه. لا تقلقي بشأن عدم كفاية الوقت لتجربة كل شيء. بسرعة الكمبيوتر ، تمر القرون  في الداخل كأنها ثانية ، الحد الوحيد هو خيالك. في العالم اللا مرئي ، الخيال والواقع  نفس الشيء. وحين يخطر شيء ما في خيالك ، يصبح حقيقة. بالطبع ، الواقع في الذاكرة الكمومية عبارة عن مجموعة نبضات. والناس في هذا العصر ينتقلوا تدريجيا إلى العالم اللا مرئي ، وصار  يعيش هناك عدد أكبر ممن في العالم المرئي، رغم امكانية وجود نسخة من الدماغ في كلا العالمين ، فإن العالم اللا مرئي يشبه المخدرات . بمجرد أن يختبر احدهم الحياة هناك لا  يريد العودة . عالمنا مع همومه بالنسبة لهم جحيم . العالم اللا مرئي صارت له اليد العليا ويتولى تدريجياً السيطرة على العالم بأسره ".


كما لو كانوا سائرين نوما عبر ألف عام ، حدقوا في جبل الذاكرة الكمومية ونسوا الوقت ، وفقط حين أضاءت الشمس الحقيقية الشرق كعادتها منذ مليارادت السنين عادوا إلى الواقع.


"ماذا سيجري بعد ذلك؟" سألت السفيرة.


"كبرنامج في العالم اللا مرئي ، من السهل عمل نسخ كثيرة من نفسك ، وأي أجزاء من شخصيتك لا تحبها - مثل كونك معذب بالمشاعر والمسؤولية بشدة - يمكنك التخلص منها أو استئصالها لتستخدم في مرة قادمة تحتاج اليها. ويمكنك تقسيم نفسك إلى أجزاء متعددة تمثل جوانب مختلفة من شخصيتك. وبعد ذلك يمكنك الانضمام إلى شخص آخر لتكوين نفس جديدة من عقلين وذكرياتكما. وبعد ذلك يمكنك الانضمام مع عدة أو عشرات أو مئات الأشخاص…. سأتوقف قبل أن أقودك إلى الجنون. يمكن أن يحدث أي شيء في أي وقت في العالم اللا مرئي ".


"ثم؟"


”فقط تخمينات. تشير العلامات الواضحة إلى اختفاء الفردية، وكل شخص في العالم اللا مرئي  سيدمج في برنامج واحد ".


"ثم؟"


"لا أعرف. هذا سؤال فلسفي ، فبعد خروجي مرار من السبات صرت أخاف من الفلسفة ".


"انا  عكسك وصرت الآن فيلسوفة . أنت محق في أنه سؤال فلسفي ويجب دراسته من هذا المنظور. كان يجب علينا التفكر فيه منذ فترة طويلة ، لكن لم يفت الأوان بعد. الفلسفة بالنسبة لي طبقة شاش مثقوبة  ، وفي لحظة ، ادرك ما يكمن أمامنا في الطريق ".


قال القائد: "نحن بحاجة إلى التوقف عن هجرتنا عند هذا العصر". "إذا واصلنا المضي قدمًا ، فسيواجه المهاجرون صعوبة أكبر في التكيف مع البيئة المستهدفة. يمكننا أن ننهض ونناضل من أجل حقوقنا ".


"هذا مستحيل. وغير ضروري. "


"هل لدينا أي خيار آخر؟"


"بالطبع نقوم به. وهو اختيار واضح ومشرق مثل شروق الشمس أمامنا. استدعي المهندس ".


فك التجميد عن المهندس ويجري الان مع السفيرة فحص للمعدات وإصلاحها. وقد حوله فك سباته مرارا  من شاب إلى مسن. وحين  استدعاه القائد المرتبك ، سألته السفيرة ، "إلى متى يمكن أن تدوم اجهزة السبات؟"


"العزل في حالة ممتازة ، ومفاعل الاندماج يعمل بشكل طبيعي. في عصر البهو، استبدلنا معدات التجميد بالكامل بتقنيتهم وزدنا بوقود الانصهار. وبدون أي استبدال للمعدات أو أي صيانة أخرى ، ستستمر جميع مستودعات التجميد البالغ عددها 200 مستودع لمدة اثني عشر ألف عام ".


"ممتاز. عين موعد نهائي للساعة الذرية واجعل الجميع ينامون. لا أحد يستيقظ حتى يتم الوصول إلى تلك الوجهة ".


"وهذه الوجهة هي ..."


"أحد عشر ألف سنة."


مرة أخرى ، دخل هوا إلى وعي السفيرة المفتت، وأصبح أكثر واقعية من أي وقت مضى: شعره الداكن يطفو في الريح الباردة ، وعيناه مبللتان بالدموع ، نادى عليها. قبل أن تدخل في فراغ اللاوعي ، قالت له ، "هوا ، سنعود إلى البيت! نحن عائدون إلى البيت! "



************


الرحلة


بعيدا عن الوعي والإدراك ، اجتاحت الشمس السماء كما النيزك ، والزمن يتخطاهم في العالم الخارجي.


... 1،000 سنة ... 2،000 سنة ... 3،500 سنة ... 5،500 سنة ... 7،000 سنة ... 9،000 سنة ... 10،000 سنة ... 11،000 سنة.


محطة التوقف الرابعة : العودة إلى البيت


هذه المرة - حتى في نومها الفائق - شعرت باللا نهاية.  بطول ليلة امتدت عشرة آلاف عام ، وانتظار مائة قرن ، حتى الكمبيوتر الذي يتحكم بثبات في مائتي مستودع تجميد فائق   دخل هوا الاخر في سبات. 


خلال الألفية الأخيرة ، بدأت الأجزاء تتعطل ، وأنطفئ عدد لا يحصي من  مستشعرات الرؤية واحدة تلو الأخرى ، وشُلّت أعصاب دائرتها المتكاملة ، وتلاشت طاقة مفاعل الاندماج ، وبفضل عزل اجهزة التجميد فقط  ظلت ثابتة عند الصفر المطلق خلال العقود الأخيرة  . . ثم بدأت درجة الحرارة في الارتفاع ، ووصلت بسرعة إلى مستويات خطيرة ، وبدأ الهيليوم السائل في التبخر. ارتفع الضغط بشكل كبير داخل غرف النوم الخارق ، وبدا كما لو أن الرحلة التي استمرت أحد عشر ألف عام ستنتهي دون قصد في انفجار.


ولكن بعد ذلك ، لاحظت المجموعة الأخيرة المتبقية من  حواس الكمبيوتر الوقت في الساعة الذرية ، واستدعت ثانيتها الأخيرة من ذاكرتها القديمة أمر بإرسال إشارة ضعيفة لتشغيل نظام الاستيقاظ. أذابت نبضة رنين مغناطيسي نووي السائل الخلوي داخل جسد قائد فريق الاستطلاع ومائة من أعضائه من الصفر المطلق تقريبًا في جزء من الثانية ، ثم رفعته إلى درجة حرارة الجسم الطبيعية.  ليخرجوا من اجهزة التجميد بعد يوم . وبعد أسبوع ، استيقظت السفيرة  ولجنة الهجرة بأكملها.


حين انفتح الباب الضخم  لمستودع التجميد  بحجم صدع صغير ، هبت ريح من الخارج. استنشق السفيرة ذاك الهواء. وعلى عكس العصور الثلاثة السابقة ، حملت رائحة الزهور. كانت رائحة الربيع ، رائحة عصرهم . كانت على يقين أن القرار الذي اتخذته قبل عشرة آلاف عام قرار صحيح.

توجهت السفيرة والمفوضون نحو عصر نهاية وجهتهم


كانت الأرض تحت أقدامهم مغطاة بالعشب الأخضر بقدر ما يمكن أن تراه العين. خارج باب المستودع ، كان هناك جدول مياه صافية تظهر فيه أحجار جميلة وملونة على قاع النهر وتسبح الأسماك على مهل. قام عدد قليل من أعضاء فريق الاستطلاع بغسل وجوههم فيه، حيث غطى الطين أقدامهم العارية وحمل النسيم  ضحكاتهم. سماء زرقاء ذات غيوم بيضاء وشمس واحدة فقط. ونسر يحلق بهدوء و طائر أصغر يصيح به . ,بعيدا كانت هناك  سلسلة جبال والتي قد اختفت قبل عشرة آلاف عام خلال عصر الرواق قد  عادت مرة أخرى تناطح السماء ، وتعلوها غابة كثيفة….


بالنسبة للسفيرة ،  بدا العالم الذي أمامهم  بعد العصور الثلاثة السابقة لطيفًا نوعًا ما ، لكنها بكت دموعًا دافئة  لأجل كل ذاك اللطف ، لقد ظلت تنجرف على غير هدى لمدة 11 ألف سنة ، فكانت هي وجميعهم في حاجة إلى هذا ، عالم  شجي ودافئ  ناعم كالحرير حيث يمكنهم فيه اراحة  عقولهم المهشمة والمرهقة.


لم يكن في السهل أي علامة علي وجود بشر


جاء قائد فريق الاستطلاع ليكون في مواجهة  بؤرة اهتمام للسفيرة واللجنة حيث نظرة الحكم علي البشرية


قال "لقد انتهى كل شيء".


عرف الجميع مغزى كلماته. وقفوا صامتين بين السماء الزرقاء المقدسة والعشب الأخضر وهم يتقبلون هذا الواقع.


"هل تعرف لماذا؟" سألت السفيرة.


هز القائد رأسه.


"بسبب البيئة؟"


"لا ، ليس البيئة. ولم تكن حربا أيضا. ولا أي سبب آخر يمكننا التفكير فيه ".


"هل هناك بقايا؟"


"لا. لم يتركوا أي شيء وراءهم ".


اجتمع  المفوضين وبدأوا في اجراء تحقيق عاجل:


"هل من مؤشرات على هجرة خارج الأرض؟"


"لا. جميع الكواكب القريبة عادت إلى حالتها البدائية، ولا توجد علامات على هجرة بين النجوم ".


"الم يتبق شيء من بعدهم ؟  أطلال أو سجلات من أي نوع؟ "


"كلا. لا يوجد شيء. عاودت الجبال الظهور بواسطة الاحجار وما خرج من المحيط. عادت النباتات والبيئة بشكل جيد ، ولكن لا توجد علامة على أي بناء قامت به أيدي البشر. المواقع الاثرية القديمة موجودة حتى قرن واحد قبل زماننا  ،  ولكن لا يوجد شيء أكثر حداثة. كان النظام البيئي يعمل من تلقاء نفسه منذ حوالي خمسة آلاف عام ، وصارت البيئة الطبيعية الآن تشبه العصر الحجري الحديث ،مع عدد أقل بكثير من الانواع الحية. "


"كيف لم يبق شيء؟"


"لا يوجد شيء أرادوا قوله".


وحينئذ صمتوا جميعًا.


ثم قال القائد للسفيرة "لقد توقعتي هذا ، أليس كذلك؟ لا بد أنك أدركتي السبب ".


"يمكننا معرفة السبب ، لكننا لن نفهمه أبدًا. إنه متجذر بعمق في الفلسفة. عندما وصل تفكيرهم بخصوص الوجود إلى أعلى مستوياته ، استنتجوا أن عدم الوجود هو الخيار الأكثر عقلانية ".


"لقد أخبرتك أن الفلسفة تخيفني."

$

"حسنا دعنا نترك الفلسفة حاليا". خطت السفيرة بضع خطوات إلى الأمام وألتفت نحو اللجنة.


"أعلن وصول المهاجرون. فكوا تجميدهم جميعًا! "


بثت الدفعة الأخيرة من الطاقة القوية لمائتي مفاعل نووي نبضة رنين مغناطيسي نووي لتفك تجميد ثمانين مليون شخص. في اليوم التالي ، خرجت البشرية من مستودعات التجميد وانتشروا في القارات التي صارت غير مأهولة منذ آلاف السنين. وتجمع عشرات الآلاف في السهل خارج مستودع التجميد رقم 1 حيث وقفت السفيرة أمامهم على منصة ضخمة أمام المدخل. وكان قليل منهم يستمعون ، لكنهم نشرونا كلماتها على الباقين مثل تموجات الماء.


"أيها المواطنون ، لقد خططنا للسفر مائة وعشرين عامًا لكننا وصلنا أخيرًا بعد أحد عشر ألفًا. لقد شهدتم كل شيء. لقد رحلوا ، ونحن البشر الوحيدون الباقون على قيد الحياة. لم يتركوا أي شيء وراءهم ، لكنهم تركوا كل شيء وراءهم. لقد بحثنا حتى عن بضع كلمات لهمم منذ الاستيقاظ ، لكننا لم نعثر على شيء. لا يوجد شيء على الاطلاق. هل حقا لم يكن لديهم  ما يقولوه؟ لا! بل كان لديهم ، وقد قالوا ذلك. السماء صارت زرقاء ، والأرض خضراء ، والجبال والغابات ، كل إعادة خلق للطبيعة هذا ما أرادوا قوله. انظروا إلى خضرة الأرض: هذه أمنا. مصدر قوتنا! أساس وجودنا وراحتنا الأبدية! ستظل البشرية ترتكب أخطاء في المستقبل ، وستظل تجوب صحراء البؤس واليأس ، لكن طالما بقينا متشبثين بأمنا الأرض ، فلن نختفي كما حدث. بغض النظر عن صعوبة ذلك، ستستمر الحياة والإنسانية. أيها المواطنون ، هذا هو عالمنا الآن ، وسنبدأ جولة جديدة من عمر البشرية، و لن نبدأ بشيء سوى ما قدمته البشرية ".


أخرجت السفيرة الرقاقة الكمومية التي حفظتها من عصر الرواق ، وأمسكت بمجموع المعرفة البشرية  كي يراه الجميع. ثم ثبتت حركتها حين انجذبت عيناها إلى نقطة سوداء صغيرة تحلق بسرعة عبر الحشد. مع اقترابها ، رأت الشعر الأسود الذي لمحته مرات لا تحصى في أحلامها ، والعيون التي صارت غبارا منذ مائة قرن. لم يظل هوا باقيا في الماضي أحد عشر ألف سنة ، لكنه جاء خلفها في النهاية ، عابرا  صحراء الزمن التي لا تنقطع في أعقابها . وعندما احتضننا ، أصبحت السماء والأرض والإنسان واحدا


"تحيا الحياة الجديدة!" صاح أحدهم.


"تحيا الحياة الجديدة!" دوى السهل بالهتاف. وطار سرب من الطير فوق الرؤوس ، يغني بفرح.


ففي نهاية كل شيء ، بدأ كل شيء.

Comments

Popular posts from this blog

ماذا ينقص الخيال العلمي العربي ليصبح مرآة مستقبلية؟

ترجمة الفصل الثالث من رواية بوابة المالا نهاية ل مايك كاري