فيلم آلة الزمن… عن الشعوب المسالمة ومصير البشرية




يمتاز فيلم  آلة الزمن  الذي أنتج عام 1960 بكونه مأخوذا من قصة اعتبرت نقطة تحول في الأدب العالمي لأنها أول قصة في الخيال العلمي حول مفهوم السفر عبر الزمن في العصر الحديث، أي انتقال الإنسان من زمن إلى آخر عن طريق آلة صنعها بنفسه.


وكانت القصة الأصلية قد نشرت عام 1895، ولم يكن الكاتب سوى الأديب البريطاني أتش. جي. ويلز (1866 ـ 1946).

تبدأ أحداث الفيلم في اليوم الأخير من عام 1899 حيث اجتمع أربعة أصدقاء في منزل المخترع الإنكليزي   جورج  (مثّل دوره الممثل الأسترالي رود تيلر) الذي أدعى أنه قد نجح في اختراع آلة تنتقل عبر الزمن، ولكن الحضور لم يخفوا شكهم في صحة كلامه. ولبرهنة ادعائه، وضع أمامهم نموذجا مصغرا لآلة وطلب من أحد الحاضرين الضغط على عتلة فيها، وما أن فعل ذلك حتى اختفت الآلة، ولكن هذا لم يكن كافيا لإقناعهم.


وفي نهاية الأمسية اتفق الجميع على اللقاء مجددا في المكان نفسه وحددوا الموعد. وما أن غادر الأصدقاء منزل  جورج  حتى نزل هو إلى قبو المنزل، حيث توجد آلة الزمن الأصلية، وجلس على مقعد القيادة وشغّلها لينتقل إلى المستقبل. واستمر في الانتقال من زمن إلى آخر حتى لاحظ أراضي خضراء جميلة، فأوقف الآلة وأخذ يتفحص التاريخ، فإذا به يكتشف أنه حوالي عام 800000 ميلادية. وقرر استكشاف المنطقة، وكانت أول مفاجأة له اكتشافه أنه بالقرب من تمثال عملاق يشبه أبوالهول، ثم تجول أكثر في المنطقة وإذا به يكتشف وجود مجموعة من الأشخاص الجالسين بالقرب من ضفة نهر صغير، وجرف تيار النهر فتاة منهم صرخت طالبة النجدة، بدون أن يستجيب لها أحد من المجموعة وكأنهم لم يسمعوها. ولكن  جورج  هرع لإنقاذها ونجح في مسعاه، وما أن استفاقت الفتاة حتى ذهبت للانضمام إلى رفاقها، وكأن شيئا لم يحدث، وحتى بدون أن تشكره. ومع ذلك استطاع  جورج  التكلم معهم ومخالطتهم، ووجدهم لطفاء ودودين، ولكنهم يتكلمون لغة إنكليزية بسيطة، تنم عن عدم التعليم. كما وجدهم جميعا بالغي الجمال وذوي شعر أصفر وبشرة بيضاء. وقالت له الفتاة التي أنقذها إن اسمها  وينا  وإن شعبها يدعى  الأيلوي . وعندما حل الظلام قرر  جورج  العودة إلى آلته، ولكنه لم يجدها وكان واضحا أن أحدهم قد سحبها، فتتبع آثارها حاملا مصباحا، واكتشف أن شخصا ما قد وضعها داخل مبنى أبو الهول. وأخبرته  وينا  أن أناسا يدعون  المورلوك  أخذوها، حيث أنهم لا يخرجون إلا ليلا. وأثار هذا فضول  جورج ، ولكن فضوله لم يدم طويلا حيث هجم أحد  المورلوك  على  وينا  محاولا اختطافها، ولكن مصباح  جورج  أوقفه عند حده بسبب حساسية عيون  المورلوك  للضوء فترك  وينا  هاربا. ولاحظ  جورج  أن  الأيلوي  لم يعرفوا النار، ولذلك كانت النار التي أشعلها  جورج  مفاجأة لهم. وفي اليوم التالي قادت  وينا   جورج  إلى آبار ضخمة وأخبرته أن هذه الآبار توصل إلى عالم  المورلوك  لأنهم يسكنون تحت سطح الأرض. وأخذ  جورج يكثر من أسئلته لـ وينا ، فأخذته إلى متحف قديم احتوى كتبا قديمة جدا، وعرف  جورج  مما وجده من الكتب أن العالم كان قد عانى في الماضي السحيق من حرب طاحنة استمرت ثلاثمئة وستة وعشرين عاما كانت نتيجتها تسمم جو الأرض وتقلص عدد سكانها. ولذلك قرر قسم منهم العيش تحت سطح الأرض بينما بقي القسم الثاني على سطحها.


واستنتج  جورج  أن القسمين قد تطورا بشكلين مختلفين، فتحول أحدهما إلى  الأيلوي  والآخر إلى  المورلوك . وقرر  جورج  الدخول إلى عالم  المورلوك  عن طريق الآبار، ولكنه ما أن بدأ بالنزول حتى سمع صفارات إنذار عالية جدا، فعاد إلى السطح ليجد العديد من  الأيلوي ، ومنهم  وينا ، في حالة تنويم مغناطيسي، يدخلون مبنى أبو الهول قبل أن تقفل أبواب المبنى. ويدخل  جورج  في دوامة من القلق فقرر دخول عالم  المورلوك  عن طريق الآبار، حيث اكتشف أنهم وحوش ذكية ومشوهة، وتملك أجهزة ضخمة للإبقاء على حياة  الأيلوي  الجميلة على السطح.

واكتشف أن هدف  المورلوك  من هذا كان تربية  الأيلوي  حتى سن معين ثم أكلهم، أي أن  الأيلوي  كانوا بالنسبة لـ المورلوك  مثل الماشية. ويعثر  جورج  على  وينا  ويدخل في معركة مع  المورلوك  ما شجع الأسرى من  الأيلوي  على الثورة على آسريهم. وينقذ  جورج   وينا  والآخرين من براثن خاطفيهم واشتعلت النار في كهف  المورلوك  ما أدى إلى انهياره. وفي اليوم التالي يدخل  جورج  مبنى أبوالهول ليأخذ آلته، فإذا بأحد  المورلوك  يهاجمه ولكن  جورج  نجح بركوب الآلة وغادر ذلك الزمن عائدا إلى زمنه، وبالتحديد يوم الاجتماع الثاني في منزله عام 1900. وعند وصول  جورج  إلى منزله كان أصدقاؤه الأربعة قد تجمعوا هناك، ودخل الغرفة متعبا مجعد الثياب، وسط استغراب الحضور. وأخبرهم بالقصة كاملة ولكنهم لم يصدقوه، فأخرج زهرة كانت  وينا  قد أهدتــه أياها وأعطاها لأحدهم الذي كان خبيرا بالنباتات، والذي اعترف بعدم رؤيته لهذا النوع من الأزهار سابقا. وودع  جورج  أصدقاءه بسرعة وخرج من الغرفة، فتبعه أحد الأصدقاء إلى حديقة المنزل حيث آلة الزمن ولكنه لم يجـــد  جورج  أو الآلة. وهكذا تنتهي أحداث الفيلم.

لقد كان الفيلم أكثر تفاؤلا من القصة الأصلية، حيث يقوم  جورج  في القصة الأصلية بالانتقال إلى ثلاثين مليون سنة في المستقبل بعد أن يهرب من  المورلوك  ويشاهد نهاية كوكب الأرض وانطفاء الشمس.

لم يكن  ويلز  أول كاتب للخيال العلمي، حيث سبقه مؤلفون آخرون مثل البريطانية ماري شيللي، التي كتبت قصة  فرانكشتاين  والأمريكي أدجار ألان بو، والفرنسي جول فيرن، ولكن  ويلز  كان أشهرهم على الإطلاق وأكثرهم غزارة وتنويعا في الإنتاج، حيث نشر حوالي مئة كتاب في حياته ولا يزال خمسة وعشرون كتابا له تنشر حتى الآن في العالم. برز  ويلز  كذلك في القصة العادية والفكر السياسي والنقد الاجتماعي، ووصلت شهرته إلى درجة أنه اعتبر أبرز أديب ومفكر سياسي في بريطانيا، وخير من يمثل النخبة المثقفة البريطانية. واستفاد  ويلز  كثيرا من كل هذا، حيث أسس علاقات وثيقة مع كبار رجال السياسة البريطانيين، خاصة السياسي البريطاني المعروف ونستون تشرتشل، وتحول إلى شخصية اجتماعية مرموقة وعرف بعلاقاته النسائية الكثيرة وبمعرفة زوجته. وهناك اختلاف أساسي بين  ويلز  وغيره من كتاب الخيال العلمي في كون الخيال العلمي بالنسبة له لم يكن سوى وسيلة لإيصال فكرة سياسية أو اجتماعية إلى القارئ، بينما كان الخيال العلمي بالنسبة للكتاب الآخرين هدفا بحد ذاته، ولذلك فإن  ويلز  لم يهتم كثيرا بالتفاصيل العلمية طالما هي تفي بالغرض لإيصال رسالته.


كان  ويلز  من أصول فقيرة، ولكنه نجح في إكمال تعليمه، وبرز ككاتب من الناحيتين الأدبية والتجارية، وتحول إلى فتى ماكنة الإعلام البريطاني المدلل، حيث أظهره الإعلام كعبقري الأدب البريطاني الحديث، واعتبره مفكرا عظيما. وامتاز  ويلز  بالغرور إلى درجة النرجسية ولم يكن يحترم أو يأبه لمشاعر أحد، وامتلك قسوة في مشاعره. وآمن  ويلز  ببعض الأفكار الأشتراكية في بادئ حياته، ولكنه تميز لاحقا باعتناقه جهرا لمبادئ نظرية  اليوجينيا  (Eugenics) التي تعود أصولها إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وأول منظري هذه النظرية كان فرانسيس كالتن (1822 ـ 1911) الذي كان أحد أقرباء العالم البريطاني تشارلز دارون. ويدعي المؤمنون بهذه النظرية أن نظرية  دارون  تنص على أن البقاء للنوع الأقوى، الذي عليه أن يقضي على بقية الأنواع بالقوة إذا اقتضت الضرورة، ويضمن بذلك بقاءه، ولذلك فإن هدف هذه النظرية كان تأسيس الشعب كامل الأوصاف، الذي يسيطر على العالم بالقوة ويقضي على كل من ينافسه. وأيد معتنقي  اليوجينيا  فكرة تقليل حجم الطبقة الفقيرة عن طريق الإجهاض أو التعقيم، وأن كل من يكون غير مفيد يجب أن لا يستمر في البقاء، خاصة أن كون المرء إنسانا لا يكفي بالنسبة لهم ليعطيه حق البقاء على قيد الحياة.

ونعود إلى فيلم  آلة الزمن ، ونتساءل عن مغزى قصة الفيلم والمقصود من  الأيلوي  و المورلوك . وقد أعتقد البعض أن  ويلز  كان يتحدث عن مصير طبقة الرأسماليين التي مثلها (حسب رأيهم)  الأيلوي ، وطبقة العمال التي مثلها  المورلوك ، وأن العمال سيسيطرون على الرأسماليين والعالم. وسبب هذا الاعتقاد كان اعتناق  ويلز  لبعض المبادئ الاشتراكية لفترة من حياته. ولكن تفسيرا آخر قد يكون أكثر احتمالا لهذا الفيلم، فالقصة ربما كانت إنذارا للشعب الكامل الأوصاف الذي يتم إنتاجهم حسب نظرية  اليوجينيا  بأنهم إن أصبحوا مسالمين فسيأكلهم أعداؤهم. ولذلك فعليهم أن يكونوا أشد من الوحوش ضراوة للقضاء على أعدائهم، وإلا فإن مصيرهم الفناء.

وقد ألف  ويلز  في العام التالي (1896) قصة  جزيرة الدكتور مورو  التي حملت سمات واضحة لنظرية  اليوجينا . تشترك قصة  آلة الزمن  مع قصص أخرى له في نواح عدة، ففيها شعب مكون من أفراد متشابهين إلى درجة كبيرة، ويعيشون حياة منظمة جدا، وشخص يدخل في عالم هذا الشعب مسببا تغيرا جذريا، وأعداء مرعبون هدفهم القضاء على ذلك الشعب.

وقد أصبحت قصصه الشهيرة أفلاما خلدها التاريخ، ومثّل فيها أشهر ممثلي السينما الأمريكية مثل  توم كروز  (فيلم حرب العوالم) وبرت لانكستر (فيلم جزيرة الدكتور مورو) وكيفن بيكر (الرجل الخفي). واقتبس الكثير من الأفلام والمسلسلات أفكارا من قصص  ويلز ، خاصة قصة  آلة الزمن  مثل مسلسل  رحلة نجمية  (Star Treck)، وسلسلة الأفلام الشهيرة  العودة إلى المستقبل  (Back to the Future) وغيرهما. وقد أنتجت أربعة أفلام عن قصة  آلة الزمن  هذه وكان آخرها عام 2002 وكان مخرجه حفيد  ويلز  نفسه. وتناول الكثير من الأكاديميين المختصين أعمال  ويلز  نظرا لأهميتها الفكرية والسياسية.


كتب المقال  زيد خلدون جميل ونشر في موقع القدس نوفمبر 2018


Comments

Popular posts from this blog

ماذا ينقص الخيال العلمي العربي ليصبح مرآة مستقبلية؟

ترجمة الفصل الثالث من رواية بوابة المالا نهاية ل مايك كاري