مرحبا بكم في الحديقة الجوراسية




سبعة عشر عاما كاملة مرت منذ ظهور آخر جزء في سلسلة أفلم الحديقة الجوراسية  Jurassic Park الشهيرة، التي استحوذت على قلوب ملايين العشاق في كل ركن من العالم، وشكلت علامة فارقة في تاريخ صناعة الأفلام. 


بالتأكيد الجميع شاهد الفيلم الفائق الذي ظهر عام  1993بتوقيع ستيفن سبيلبيرج   Steven Spielberg والمأخوذ عن رواية مايكل كرايتون  الشهيرة (بنفس الاسم،) المعالجة الفيلمية للرواية جاءت مختلفة إلى حد ما. صنع سبيلبرج نسخة جماهيرية خفيفة المحتوى من حكاية كرايتون العلمية الرصينة، وقدمها للجمهور بمؤثرات بصرية ثورية لم يظهر مثلها على الشاشة قط. 


لكنه في المقابل نحى كثيرا من العلم جانبا، وكثيرا من النقاش الفلسفي، وكثير ا من العنف أيضا.. ففي النهاية لم يتحمل سبيلبرج فكرة أن يسلب  الأطفال حقهم في الاستمتاع بديناصوراتهم الحبيبة - وهو ما كان سيحدث من وحي الأفلام بالتأكيد إذا قدمت الرواية في السينما بعنفها الكامل كما كتبها كرايتون فكان لا بد من ترويض النص بعض الشيء، حتى لا يأخذ الفيلم تصنيفا رقابيا مرتفعا.


 من اللحظة الأولى كان سبيلبيرج راغبا في تقديم شيء مختلف في الحديقة الجوراسية، وكانت المشكلة هنا هي خلق ديناصورات تبدو حقيقية تماما  في حركتها ومظهرها وصوتها، والبديل السهل المتاح كان استخدام أسلوب التحريك بإيقاف الكادر، الذي برع فيه راي هاري هاوزن ساحر المؤثرات البصري ة، لكن المشاهد اعتاد على رؤية وحوش هاوزن بمشيتها المتصلبة مثلٍ الميكانيكية بعض الشيء، وهو الأمر الذي لم يكن سيرض به في فيلم مثل هذا. 


من هنا جاء التعاون الأول بين ستان وينستون وسبيلبرج، حيث قدم  الاثنان صدمة حقيقية للعالم رجوعا إلى العام 1993 ،ستان وينستون  متخصص في صنع مخلوقات ميكانيكية  بالحجم الطبيعي تعرف بالـ أنيماترونيكس  ، Animatronics ولقد قدم الرجل في الحديقة الجوراسية  أشهر وأكثر نماذج الأنيماترونيكس دقة وروعة في التنفيذ، كائنات لم تظهر بمثل هذه الطبيعية على الشاشة من قبل، فأذهلت صانعيها أنفسهم  نعت جميعها بالحجم الطبيعي، إضافة إلى الكمبيوتر جرافيك بالطبع،  لقد استطاع ستان وينستون جعل الديناصورات تجوب الأرض مجددا كما  لم يرها أحد من قبل، وقد صنعت جميعها بالحجم الطبيعي، هذا بالإضافة إلى الكمبيوتر جرافيك بالطبع أو الـ .CGI 


 طوال مدة عرض الفيلم التي تتخطى الساعتين، ظهرت الديناصورات  لمدة  15دقيقة على الشاشة، لكن تم توزيع هذه الدقائق بعناية حتي تعطيك إيحاء بأنها ضعف هذا الرقم، 9 دقائق منها كانت لنماذج ستان وينستون الميكانيكية، و 6دقائق للصور المخلقة حاسوبيا التي نفذها الرواد في شركة ILM 


صنع ستان وينستون، الـتي ركس الهائل، بطول  12 مترا وارتفاع  6 أمتار ووزن يبلغ  7أطنان، وتكلفة تصل إلى  90000 دولار، وكان يقوم  بتشغيله فريقم كو ن من 12 م شغل. هيكل هذا الأنيماترونيكس كان من  الزجاج الليفي  ، مكسو ا بطبقة تعادل   1360كيلو من الصلصال. وتمت تغطيته بجلد مرن  قوي التحمل من الـلاتكس، وقام فريق الفنيين ٍ بدهانه بخليط مبتكر من الألوان.

 

بعد ذلك تم تثبيت هذا الوحش الميكانيكي على محاكي حركة، وهو محرك  هيدروليكي  ضخم ، ليصير التحكم فيه ممكنا عن طريق مفاتي الكمبيوتر، وهذا كله يتم عبر نموذج مصغر يسمى والدو، يتحكم فيه  عدد  من محركي الدمى، يحركون الرأس والذيل والذراعين... إلخ، ويقوم الكمبيوتر بتسجيل هذه الحركات، ثم يبرمج النموذج الكبير كي يعيد أداءها كما نفذت بالضبط.


 أعقد مشاهد الفيلم كما ذكرنا كان هجوم هذا الوحش العملق على السيارة في الطريق الرئيسي، واعتمد المشهد بالكامل على نموذج ستان  الميكانيكي  ، مع القليل جدا من اللقطات الرقمية، حتى أن ستان نفسه أصابه الذهول من براعة الديناصور في التمثيل.. هذه البراعة أقنعت سبيلبرج بإضافة معركة ختامية لم تكن في السيناريو الأصلي بين هذا الممثل القدير واثنين من الطيور الجارحة. 


 من إبداعات ستان أيضا في الحديقة الجوراسية؛ فيلوسيرابتور بطول  6أقدام، وعنق الباكيوسورس الطويل، وتريسراتوبس مريض، ٍ وديلوفوسورس باصق  للسم ، وفيلوسيرابتور وليد، كلهم صنعوا بالأحجام الطبيعية، واستطاع وينستون بها أن يقتنص الأوسكار الرابعة والأخيرة في حياته المهنية.


بعد ذلك جاء دور دينيس مورين من شركة ILM الذي حقق من قبل نتائج مذهلة مع جيمس كاميرون في فيلم   Terminator 2 إن تجارب الكمبيوتر جرافيك في الفيلم هي نتاج خبرة  14عاما، منذ أن أنشأ جورج  لوكاس قسما للكمبيوتر جرافيك في شركته، ونلحظ هنا أن دور  ILMجاء  بعد التصوير، وكانت ذروة إبداعهم في المشهد الذي يقف فيه عالم الحفريات آلان جرانت وزميلته إيلي ساتلر مذهولين يرمقان براكيوسوروس عملق ّ يشب  ليلتهم أوراق الشجر، هذا مشهد لم يحدث إلا على شاشة الكمبيوتر فقط. 


وخلل  18شهر  ا من العمل الشاق والمرهق، أنجز فنانوا الشركة  6دقائق  كاملة من المؤثرات الكمبيوترية تضم  50تتابع ا، وكان عملهم يتضمن إضافة رتوش بسيطة لبعض المشاهد، كإضافة طرطشة الماء حول قدميالـتي ركس مثلا


تقاسم فريق  ILM مع ستان وينستون وفريقه أوسكار أفضل مؤثرات بصرية، كما حاز الفيلم على جائزتين أخريين هما: أوسكار أفضل مونتاج صوت، وأفضل مكساج صوت، هاتان الأخيرتان عن العمل المذهل الذي قام به مهندس الصوت جاري رايدستورم؛ لتخليقه أصوات طازجة ومرعبة ٍ للغاية لديناصورات الفيلم، صنعها عن طريق مزج أصوات حيوانات ٍ عديدة كالقرود والصقور والنمور. مثل نعيق الديلوفوسوروس باصق  السم كان نتيجة مزج  رقمي بين صيحة صقر وهسيس أفعى الجرس، ونداء تزاوج البجعة! 


الحديقة الجوراسية هو كل ما كانت هوليوود تحلم به في أوائل التسعينيات، فهو عمل ثوري وكلاسي في ذات الوقت، وجاء ليحتل مكانا مميزا بجوار أفلام مثل جودزيل وكينج كونج، هذا إن لم يكن قد تفوق عليهما. 


 الآن لننحي الحديث عن الجوانب التقنية جانبا، ونتحدث قليلا عن الفيلم نفسه.. بدأ سبيلبرج الفيلم بأسلوبه العتيد في الشحن البطيء جدا.. تمهيد  طويل خلال الساعة الأولى من الفيلم جعل المشاهدين يقضمون أظافرهم من الإثارة (استراتيجية سبيلبيرج الكبىرة وبصمته الدائمة التي لم تخيب منذ صنع الفك المفترس،) تمعن الرجل في تحفيز شعور الخطر المتنامي والكارثة وشيكة الحدوث لدى المشاهد للحفاظ على انتباهه حتى بداية النصف الثاني من الفيلم، وهنا يبدأ مهرجان الرعب الحقيقي.


 مشهد هجوم الـتي ركس الرئيسي  على السيارات، هو واحد من أقوى التتابعات في تاريخ السينما على الإطلق، وهو التتابع الذي سيطارد كوابيسك ما حييت، وتم تصوير المشهد بالمناسبة في ستديوهات يونيفرسال  وليس في جزيرة كاواي التي صو ر أغلب الفيلم بها، هذا لكونه معقد للغاية من ناحية التنفيذ، لذا فضل سبيلبرج تصويره في بيئة لديه تحكم  كامل بها، ومن أجل تنفيذ رغبته تلك، تم بناء أكبر بلتوه في التاريخ حتى وقت ظهور الفيلم، والنتيجة كانت رعبا خالصا!


 ثم توالى الر عب بعد ذلك دون توقف! 

مشهد تعقب الطيور الجارحة للطفلين داخل المطبخ قرب نهاية الأحداث، كان أحد أكثر المشاهد إرعابا من بين كل مشاهد الوحوش التي ظهرت على شاشة السينما، مطاردة الـتي ركس للسيارة، الديلوفوسوروس باصق السم، الاختتامية الهائلة... إلخ، إضافة للمشاهد الأخرى التي ظهرت في النصف الأول من الأحداث؛ مشهد الوصول إلى الجزيرة وصدمة ظهور أول ديناصور طويل العنق (العديدون فغروا أفواههم على اتساعها في دور العرض،) خروج الطير الجارح من البيضة، الترايسيراتوبس المريض.. وغيرها، فالفيلم في الحقيقة متخم بالمشاهد الأيقونية التي ألهبت حماس المليين ولا زالت تفعل بنجاح منقطع النظير.. وبعد مرور خمسة وعشرين  عاما على إنتاجه، لازال الفيلم يشكل علامة فارقة في تاريخ صناعة الأفلام، واستطاع اجتياز اختبار الزمن بنجاح ساحق


كتب المقال نادر أسامة ونشر في مجلة تخيل عن منشورات ويلز 2018

Comments

Popular posts from this blog

ماذا ينقص الخيال العلمي العربي ليصبح مرآة مستقبلية؟

ترجمة الفصل الثالث من رواية بوابة المالا نهاية ل مايك كاري