وسام محمد: ننفذ مشروعا ضخما لترجمة أعمال الخيال العلمي.. وهذه أهميته المجتمعية




يعتبر الدكتور المصري وسام محمد، الأستاذ المساعد لنظم المعلومات البيئية والمكانية بجامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل في الدمام بالمملكة العربية السعودية، من رواد ترجمة أدب الخيال العلمي إلى العربية، حيث سبق أن صدرت له ترجمتان.


ويستعد الدكتور وسام محمد مع دار "منشورات ويلز Wells Publishing" لطرح مجموعة من الكتب المترجمة لأدب الخيال العلمي، وذلك خلال معرض الإسكندرية للكتاب المرتقب خلال أغسطس/آب القادم.


عن كتبه ومشاريعه القادمة وعن دار "منشورات ويلز" التي تعتبر فريدة من نوعها في الوطن العربي لتخصصها حصريا في الخيال العلمي، يحدثنا الدكتور وسام محمد في هذا الحوار الذي أجري عبر البريد الإلكتروني:


في البداية لماذا استهواك الخيال العلمي وأنت أستاذ في علوم البيئة؟

الكثير من أعلام أدب الخيال العلمي جاؤوا من خلفيات علمية ومنهم أكاديميون معروفون، آيزاك أزيموف مثلا كان أكاديميا وأستاذا في الكيمياء، قبل أن يقرر التفرغ لكتابة الخيال العلمي، وآرثر سي كلارك عالم الاتصالات البريطاني وصاحب سلسلتي روايات "أوديسة الفضاء" و"راما"، وكارل ساجان كان من أهم علماء الفيزياء الفلكية ومستشارا لأكثر من رئيس جمهورية في الولايات المتحدة، وهو نفسه صاحب رواية (اتصال Contact) الشهيرة.


في مصر كان هناك الدكتور يوسف عز الدين عيسى، الذي جمع بين العلم والأدب، فكان من مؤسسي كلية العلوم في جامعة الإسكندرية -نفس الكلية والجامعة التي قدر لي فيما بعد أن أحصل منها على درجة البكالوريوس في العلوم- وكان من أهم رواد أدب الخيال العلمي العرب، وقد تم ترشيحه لجائزة نوبل في الأدب.


بالنسبة لي كان شغفي بالخيال العلمي دافعا لدراسة العلوم، كنت قد تعرفت على أدب الخيال العلمي مبكرا عبر الروايات المترجمة لهربرت جورج ويلز وجيل فيرن، فيما بعد تعرفت على أعمال الرواد العرب مثل نهاد شريف ومصطفى محمود، وأعتقد أنني من أوائل من قرأ سلسلة ملف المستقبل، التي كانت سلسلة روايات خيال علمي للمراهقين ألفها الكاتب الشاب يومئذ الدكتور نبيل فاروق.


وعندما دخل التلفزيون بيتنا تعرفت على دراما الخيال العلمي، والتي كانت في هذا الوقت تهتم بالفكرة والحبكة أكثر مما تعنى بالمؤثرات والإبهار كما يحدث اليوم. وكان من أكثر الأفلام التي سحرتني في ذلك الوقت "سلالة آندروميدا" عن رواية بنفس الاسم للأميركي مايكل كرايشتون، و"لقاءات قريبة من النوع الثالث" للمخرج ستيفن سبيلبيرغ.


كانت جميع هذه الأعمال، الأدبية والدرامية، تقدم البحث العلمي في صورة مدهشة وكأنه الأداة القادرة على تغيير الكون، سواء للأحسن أو للأسوأ، وهو ما دفعني للتخصص في حقل العلوم البيئية، لأعرف فيما بعد في أروقة المعامل وبين ردهات المؤتمرات أن ما يأتيه العلماء أعظم فائدة وأبعد أثرا في الحضارة الإنسانية مما قد يتخيله أدباء الخيال العلمي.


كيف ترى العلاقة بين التخصصين؟

اليوم، أنا أمارس التدريس والبحث العلمي في الجامعة، ولكني أعتبر الخيال العلمي أداة مهمة لي بصفتي أستاذا أحاول أن أحفز طلابي على طرح الأسئلة والتفكير في إجابات لها، فالخيال العلمي قادر على أن يجعلنا نختبر بطريقة (ماذا لو؟) العديد من الفرضيات قبل أن تقع على أرض الواقع.


دعني أضرب لك مثلا، هناك ضمن أدوات التدريس ما يسمى بالأنشطة غير المنهجية التي ألجأ إليها عند تناولي مسألة التغيرات المناخية العالمية -وهي واحدة من أكثر المشكلات البيئية خطورة على مستقبل الإنسان والحضارة وكوكب الأرض كله- حيث قمت على سبيل المثال برفقة طلابي بمشاهدة فيلم يدعى "يوم بعد غد The Day After Tomorrow" وهو فيلم خيال علمي تم عرضه عام 2004 ويتناول التغيرات المناخية العالمية وما يمكن أن تتسبب فيه من مشكلات أقلها ما يصطلح عليه باللاجئين البيئيين.


بعدما ننتهي من مشاهدة الفيلم نفتح النقاش حول موضوع التغيرات المناخية العالمية، وصدقني ما يستطيع الطلاب استخلاصه بأنفسهم من خلال مشاهدة الفيلم أكثر مما يمكن أن يستوعبوه من خلال المادة الدراسية التقليدية.


ما الكتب التي قمتم بترجمتها وهل يمكن أن تلخصوها لنا؟

إلى الآن نشرت لي ترجمتان، الأولى رواية "الطاعون القرمزي" لجاك لندن، نشرت عام 2015، وهي رواية يمكن أن تصنف أنها تجمع ما بين الخيال العلمي البيئي وما بعد الكارثة، والثانية ترجمة رواية "الشيء القادم من عالم آخر" لجون كامبل وهي من كلاسيكيات الخيال العلمي التي استلهمت منها أعمال سينمائية متعددة، وتستخدم فكرة الغرباء القادمين من الفضاء لمعالجة رهاب الغرباء الذي غذته الحقبة المكارثية وأجواء الحرب الباردة في الولايات المتحدة وقت تأليف الرواية. وقد صدرت ترجمتها عام 2019.


كلتا الروايتين صدرتا عن منشورات ويلز، وهي دار النشر المصرية المتخصصة في أدب الخيال العلمي، وهي نفسها الدار التي أتعاون معها حاليا في مشروع ترجمة كبير.


وكيف تختار كتبك للترجمة؟

أدب الخيال العلمي تطور كثيرا، وأصبح كل يوم يتشعب وتخرج منه أنواع جديدة كالخيال العلمي البيئي وما بعد الإنسان. وأنا أحب أن أقدم للقارئ العربي تلك الأنواع الجديدة، عساني أساهم في تصحيح الصورة النمطية لأدب الخيال العلمي في الثقافة العربية.


بالطبع، ليس كل ما يخرج في العالم تحت مسمى الخيال العلمي يمكن ترجمته للعربية، بعض الأعمال لن تكون مفهومة للقارئ العربي لارتباطها الشديد بخصوصية بيئتها الأصلية، وبعضها قد لا يكون ملائما أو حتى مخالفا للقيم العامة للمجتمع العربي الإسلامي، وبعضها الآخر قد يكون مبالغا في تقديرها لأنها وجدت طريقها إلى الشاشات أو بسبب اسم صاحبها أو غير ذلك من الأسباب.


وأنا أحاول دائما أن أختار أعمالا معاصرة، ذات موضوعات تمت بالصلة لعالمنا مثل التغيرات المناخية العالمية مثلا، وأشترط على نفسي ألا أترجم إلا ما له قيمة معرفية وأدبية.


هل يمكن أن تعطينا نبذة عن كيفية تطور أدب الخيال العلمي؟

كل سرد حكائي أنتجه بشر هو خيال حتى لو وصفه صاحبه أو النقاد بالواقعي أو التاريخي أو غير ذلك، فهو في النهاية إبداع خيال صاحبه، وهو ما يسري على الخيال العلمي.


لكن الخيال العلمي قائم على ما هو معقول وممكن من الناحية العلمية وإن لم يكن متاحا، وهو ما يميزه عن أصناف أدبية أخرى مثل أدب الرعب وأدب الفانتازيا، والتي تقدم خيالا غير ممكن، فعندما يتناول أحد كتاب الخيال العلمي السفر عبر الكون من خلال الثقوب الدودية فهو يعتمد على فرضية رياضية وفيزيائية موضوع نظر من المجتمع العلمي؛ وهنا يجب أن نفرق بين نوعين من الخيال العلمي، الخيال العلمي الجدي وهو الذي يعتمد في بنيته على حقائق ونظريات علمية صحيحة، والخيال العلمي الخفيف الذي غالبا ما يستخدم المصطلحات العلمية والتقنية في غير محلها، وربما خلط ما بين ما هو علمي وما هو علم كاذب pseudoscience.


والنوع الثاني هو الأكثر انتشارا، خاصة للنشر التجاري، حيث لا يحتاج المؤلف إلى إجراء أبحاث كافية حول الفكرة التي يطرحها، ومثل هذا النوع أكثر ما أنتجه كتاب حقبة الخيال العلمي الأميركي الذهبية في النصف الأول من القرن الـ20، ويمكن أن نزعم أن كل أعلام الخيال العلمي الغربي في هذه الفترة بالذات كانت لهم مساهمات في الخيال العلمي الخفيف ومنهم أزيموف وبرادبري.


إلى جانب تقسيم الخيال العلمي إلى جدي وخفيف، يقسم الخيال العلمي إلى فئات موضوعية، تعتمد على الموضوع الأساسي الذي تستلهمه، مثل السفر عبر الزمن والتاريخ البديل والخيال العلمي البيئي.. إلخ.


إذا اعتمدنا على هذا التعريف للخيال العلمي الذي ذكرناه من قبل، فإن الخيال العلمي له جذور في كل ثقافات العالم، ولكنه تبلور كفن وأدب متمايز مع نهاية القرن الـ19 والقرن الـ20 في الغرب والولايات المتحدة بالذات، بسبب طبيعة هذه المجتمعات في هذه الفترة وتبنيها المبادرات العلمية والتقنية وتوظيفها في التنمية. ولكن في النصف الثاني من القرن الـ20، بدأ الخيال العلمي يهاجر إلى مختلف أرجاء العالم مع انتشار التقنية والتعليم.


وفي مصر سوف نجد توفيق الحكيم وهو من رواد الأدب العربي الحديث يجرب أدب الخيال العلمي في "رحلة إلى الغد"، ولحقه الجيل الثاني من أدباء الخيال العلمي، والذي كان منهم نهاد شريف وهو أول من أوقف قلمه على هذا النوع من الأدب، ومنهم من قدم أعمالا مميزة مثل مصطفى محمود في "العنكبوت" و"رجل تحت الصفر"، وصبري موسى وروايته المميزة "السيد في حقل السبانخ".


وفي نهاية الثمانينيات، حدثت حركة في أدب الخيال العلمي بسبب مشروع روايات مصرية للجيب الذي تبنته المؤسسة العربية الحديثة للطباعة والنشر، وقدمت من خلاله عددا من الكتّاب الشباب وقتئذ، منهم الراحل نبيل فاروق، والذي كان لغزارة إنتاجه وتنوعه، بغض النظر عن تقديره من الناحية النقدية، دور في نشر أدب الخيال العلمي بين القراء العرب.


وفي العقدين الماضيين، شهد الخيال العلمي رواجا في العالم العربي، وإن كان غلب على الجدي منه طابع من السوداوية ربما بسبب الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في العالم العربي، والأديب ضمير أمته ومرآة آلامها وطموحاتها، وهذا الطابع تراه في أعمال مميزة مثل "يوتوبيا" للراحل الجميل أحمد خالد توفيق، و"عطارد" لمحمد ربيع.


وفي حقل الأدب الخيال العلمي الخفيف هناك كثير من الأقلام الموهوبة والمميزة التي قدمت أعمالا واعدة، ولكن هناك كثرة تمارس الجعجعة دون طحين تعاني من تدن بلغ حد الابتذال، يتمثل في ركاكة اللغة واستخدام العامية أحيانا، وسرقة الحبكات -أحيانا بالكامل ودون مجهود لإخفاء السرقة- من مسلسلات أميركية وليس حتى من أعمال أدبية.


برأيك ما الشروط التي يجب أن تتوفر في المترجم لهذا النوع من الأدب العلمي؟

هناك شروط عامة ينبغي توافرها في المترجم، أبسطها إتقان اللغة التي ينقل منها واللغة التي ينقل إليها، لكن للأسف أرى بعض الترجمات التي لا تحترم هذا الشرط الأساسي، وبعض المترجمين يسيئون استخدام التقنية بالاعتماد كلية على برامج ترجمة، ثم يضعون أسماءهم على الترجمة حتى دون مراجعة، وتكون النتيجة نصا غير مقروء ولا مفهوم.


صحيح أن التقنيات الحديثة أصبحت تساعد المترجم، وأن هناك كثيرا من المترجمين الكبار يعتمدون على برامج الترجمة بمساعدة الحاسوب Computer Assisted Translation CAT، ولكن ينبغي قبل أن يلجأ المترجم لهذه التقنيات أن يكون هو نفسه مترجما حقا، وأن يكون قد حاز أدوات الترجمة، ثم يأتي الشرط الثاني، وهو إلمام المترجم بالموضوع الذي يترجمه، والخيال العلمي يستخدم في كثير من الأحوال مصطلحات علمية بعضها غير متداول بين غير المختصين، وترجمة هذا المصطلحات بطريقة خاطئة، أفضل طريقة لإفساد النص، ولذلك ينبغي لمترجم الخيال العلمي أن يكون ذا ثقافة علمية.


كل أعمالك صدرت عن دار منشورات ويلز، ما قصتكم مع هذه الدار التي تعتبر فريدة من نوعها في العالم العربي؟

بعد إنهاء دراستي الجامعية وكان هذا منذ نحو 25 سنة، كنت أقوم من حين لآخر بترجمة بعض المقالات لحساب بعض المجلات والصحف، ثم بدأت بكتابة مقالاتي الخاصة، كانت تراودني في هذا الوقت فكرة ترجمة سلسلة المؤسسة (Foundation) لكاتب الخيال العلمي آيزاك أزيموف، ولكن لم يتوفر لي الوقت فاضطررت إلى تأجيل المشروع.


ولكن منذ نحو 12 سنة، عاد المشروع من جديد بعدما تعرفت على دار نشر لبنانية تحمست للمشروع وقررنا أن نبدأ بترجمة الرواية الأولى من السلسلة، ولكن عاد المشروع للتعثر من جديد بسبب عجز الدار يومئذ عن الحصول على حقوق الملكية الفكرية ومشكلات مالية لحقت بها، ورغم ذلك حاولت البحث عن ناشر، ولكن في ذلك الوقت كان الجميع يخشى من نشر أعمال الخيال العلمي.


في هذه الأثناء، تعرفت على الأستاذ محمد خيري الخلال، الذي كان يملك ويدير دار نشر ناشئة يومئذ، هي منشورات ويلز، كرّسها لأدب الخيال العلمي دون غيره من ألوان الأدب، كان قد اطلع على عدد من مقالاتي المتعلقة بالخيال العلمي، وتواصل معي للتعاون، وبالفعل اتفقنا على ترجمة ونشر رواية "الطاعون القرمزي" لجاك لندن، التي تدور حول وباء غامض أفنى البشرية وطموح الإنسان لإعادة بناء حضارته، ونشرت ترجمتها عام 2015، وقد لاقت رواجا عند صدورها بين أوساط المهتمين بالخيال العلمي، ثم عادت لتصدر مشهد الخيال العلمي بعد 4 سنوات من صدورها مع انتشار وباء كوفيد-19، الذي أثار فضولا حول تخيل المؤلف لكارثة بهذا الحجم.


بعد نجاح مشروع رواية "الطاعون القرمزي"، قررنا أن نقدم على ترجمة عمل آخر من أهم أعمال الخيال العلمي، وهي رواية "الشيء القادم من العالم الآخر" للأميركي جون كامبل، وكنا قد اخترناها لعدة أسباب، فمؤلفها رغم أنه من أهم كتّاب الخيال العلمي الأميركيين فإنه مجهول تقريبا في العالم العربي، وروايته نفسها لم يتم ترجمتها إلى اللغة العربية من قبل، والرواية كانت مصدر إلهام لأكثر من 5 أعمال سينمائية، كان أكثرها شهرة فيلم "الشيء" (The thing) الذي أخرجه جون كاربنتر ولعب بطولته كيرت راسل وعرض على الشاشات عام 1982. وقد صدرت الترجمة في صورة كتاب إلكتروني عام 2019 بسبب أزمة كوفيد-19، ثم أعيد إصدارها مطبوعة مؤخرا.


لآن، وبالتعاون مع منشورات ويلز، نحن بصدد وضع اللمسات الأخيرة على مشروع يمكن أن أزعم أنه قد يكون الأهم في الحركة المعاصرة للخيال العلمي في الثقافة العربية، حيث نستعد لإصدار ترجمة 10 روايات لأهم كتاب الخيال العلمي المعاصرين.


ومنشورات ويلز دار فريدة حقا من نوعها، لأني لم ألق حتى الآن سواهم من قرر أن يتخصص في أدب الخيال العلمي فقط. وحقيقة، أعتقد أنني محظوظ بالعمل مع الشباب في منشورات ويلز، فهم يعملون من أجل فكرة يؤمنون بها، بينما هناك كثير من الناشرين يتعاملون مع النشر كصناعة فحسب، وهذا حق لهم، لكن التعامل مع النشر كصناعة واستثمار في ظل ثقافة الاستثمار العربية المتردية أصلا كارثي.


وكون القائمين على منشورات ويلز شبابا، يجعلهم قريبين من القطاع الأهم اليوم بين القراء العرب، قطاع الشباب، وهو نفسه القطاع الذي أرجو أن أساعده من خلال إهدائه بعضا من أعمال أدب الخيال العلمي الراقي عالمية الصيت، أعمال تجاوزت قصص الكاوبوي الفضائي التي أفسدت شكل ووظيفة أدب الخيال العلمي في ذهن القارئ العربي.


والشباب في ويلز هم أكثر من يدعمونني في هذا الأمر على النحو الذي عرضته من قبل، ويمكنك أن تقول لقد تشاركنا طموحاتنا. أضف إلى ذلك أن لديهم حلولا إبداعية للنشر تسمح بتوفير العمل المؤلف أو المترجم في صورة رقمية وتقليدية بجودة ممتازة وسعر معقول مما يسمح لما تخرجه الدار بالانتشار.


حقا، أعتقد أن شهادتي في حق منشورات ويلز ورئيسها وفريقها مجروحة، إننا لم نعد شركاء عمل بالمعنى المفهوم، لقد أصبحت الصداقة هي الجامع الحقيقي بيننا.


هل يمكن للمترجم أو مؤلف قصص الخيال العلمي أن يحترف هذا العمل؟

في مصر؟ لقد ظل نجيب محفوظ يحافظ على وظيفته الحكومية إلى أن بلغ سن التقاعد، رغم أن أعماله كانت الأكثر مبيعا في مصر إلى جانب عمله في كتابة السيناريو للعديد من الأفلام الناجحة والجماهيرية.


إن فكرة التفرغ للعمل الإبداعي حلم كل مبدع، ولكن حتى أعظم المبدعين هناك التزامات مادية عليهم أن يقوموا بسدادها، ولا أظن أن هناك أديبا أو مترجما يمكنه أن يتفرغ كلية للإبداع، وحتى البعض ممن يزعمون أنهم قد تفرغوا للكتابة، في الواقع أصبحوا موظفين لدى دور نشر أو شركات إنتاج سينمائي احتكرت أعمالهم، ولذلك تكتشف أن أعمالهم بعد التفرغ المزعوم أصبحت أقل جودة منها قبل هذا التفرغ.


هل يمكن أن تحدثنا أكثر عن مشروعكم الكبير مع دار منشورات ويلز؟

في عام 2017 اقترح علي الأستاذ خيري الخلال فكرة جريئة، وهي أن نقوم بترجمة ونشر مجموعة أعمال من أدب الخيال العلمي دفعة واحدة، تمثل أدب الخيال العلمي الحديث والمعاصر بالذات، حيث إن أكثر أدب الخيال العلمي المترجم للعربية ينتمي إلى عصر الخيال العلمي الكلاسيكي ورواده.


كانت الفكرة جريئة، لكن كيف يمكن أن نختار ما يمثل حركة أدب الخيال العلمي العالمي الحديث والمعاصر؟ وما حجم العمل المطلوب لترجمة ونشر مجموعة روايات دفعة واحدة؟ ولكننا قررنا أن المغامرة في حد ذاتها تستحق الخوض.


وبدأنا بتحديد معايير الأعمال التي نختارها للترجمة، كنا نريد أن نبتعد عن الموضوعات التقليدية وبالذات المستهلكة، ونختار موضوعات ترتبط بقضايا العصر، كما قررنا ألا نختار الأعمال المفصلية في أدب الخيال العلمي الحديث، فاخترنا مثلًا من أدب الخيال العلمي البيئي "هزيم الرعد" لراي برادبري، و"يوم أن غرقت فينيسيا" لكيم ستانلي روبنسون، ومن أدب الخيال العلمي الفلسفي "الجمجمة" لفيليب ديك، و"السؤال الآخير" لآيزاك أزيموف و"المسالم" لأرثر كلارك، ومن أدب السيابربنك cyberpunk اخترنا "جوني ذو الذاكرة" لويليام جيبسون، ومن أدب الخيال العلمي النسوي "أصوات الكلام" لأوكتافيا باتلر.


لقد استغرقنا قرابة 5 سنوات لترجمة هذه الروايات ومراجعتها، والآن نستعد لطرح المجموعة الأولى وتضم 5 روايات مع معرض الكتاب في مكتبة الإسكندرية، والمجموعة الثانية التي تضم روايتين فقط سوف يتم طرحها مع معرض القاهرة للكتاب.


نحن ننتظر بفارغ الصبر أن نرى رد فعل الجمهور العربي على مشروعنا، ونرجو أن نستطيع تكرار التجربة بترجمة مزيد من علامات الخيال العلمي المعاصر.


أنت تعمل أيضا على كتابة رواية خارج تخصص الخيال العلمي، حدثنا عنها؟

لقد سبق أن نشرت عددا من القصص القصيرة من الخيال العلمي في بعض الدوريات المطبوعة والإلكترونية، إلى جانب عدد من المقالات والدراسات النقدية المتعلقة بهذا النوع من الأدب، ولكني في هذه الرواية اخترت نوعا أدبيا آخر غير الخيال العلمي، يمكن أن نصفه بأدب التشويق التاريخي، إن هذا النوع يعرفه القارئ العربي من خلال أعمال مثل "اسم الوردة" للإيطالي أومبرتو إكو، و"شفرة دافنشي" لدان براون.


إنني أحاول أن استكشف من خلال هذه الرواية مفهوم الحضارة الإنسانية منذ الحضارات القديمة وصولا إلى هذا العصر حيث يعتقد البعض أن العلم بوسعه أن يصنع ما يسمونه ما بعد البشر Post-human، وذلك من خلال حبكة بوليسية.


لقد قضيت وقتا طويلا في إجراء الأبحاث اللازمة لكتابة هذه الرواية، أبحاث حول حضارات قديمة، وعقائد وفلسفات مختلفة، وجماعات سرية غامضة، إلى جانب العديد من الوقائع التاريخية، وذلك حتى أتمكن من بناء حبكة تتداخل فيها الحقائق مع خيال المؤلف، والآن أقترب من وضع اللمسات الأخيرة على نص الرواية، آملًا أن أدفعها للمطابع قريبًا.


كيف يمكن لقصص الخيال العلمي المساهمة في نشر الثقافة العلمية؟

فن الحكي أكثر جمهورا مقارنة بأي من فنون الاتصال الجماهيري الأخرى، ويمكن أن يصل إلى جميع الفئات العمرية والاجتماعية. وطرح المشكلات العلمية على الجمهور بأسلوب جامد غالبا ما يؤدي إلى انصراف هذا الجمهور عن الثقافة العلمية، بينما طرحه في إطار قصصي يؤدي إلى توصيل أعقد الأفكار لغير المختصين بصورة سهلة.


في كثير من الأحوال، يسهم الخيال العلمي في تطوير وعي المجتمع بالمشكلات التي تواجهه، وفي بعض الأحيان فإن الوعي الذي يتطور عنها قد يسهم في دفع عجلة حل هذه المشكلات.


دعني أضرب لك مثلًا حدث بالفعل، في نهاية القرن الـ20 كان كثير من الناس، ورغم تراكم أدلة علمية حاسمة، يشككون في مسألة التغيرات المناخية العالمية، ولأن مشكلة بيئية بهذا الحجم تؤثر على مستوى الكوكب ببطء شديد يجعلها غير محسوسة لعامة الناس، فقد تأثر الجمهور بالمشككين، ونتج عن هذا تأخير إصدار العديد من التشريعات اللازمة لمجابهة أزمة التغيرات المناخية العالمية في بلدان كبيرة مثل الولايات المتحدة وبريطانيا، ولكن في العقد الأول من القرن الحالي، أسهم الخيال العلمي في تعريف الجماهير حول العالم بحجم المشكلة وخطورتها، ولقد ذكرت لك من قبل فيلم "يوم بعد غد" الذي أنتج في هذه الفترة.


وفي عام 2012، وقف أحد نواب مجلس العموم البريطاني يحث زملاءه المشرعين على التصويت لإقرار قانون لمكافحة التغيرات المناخية العالمية وهو يحمل في يده نسخة من رواية لكاتب الخيال العلمي الإنجليزي ستيفن باكستر عنوانها "الطوفان"، كان موضوعها غرق العالم بسبب التغيرات المناخية العالمية. أليس في هذا دليلا على قوة تأثير أدب الخيال العلمي في صناعة الوعي والثقافة العلمية؟


كتب المقال هشام بومجوط في موقع الجزيرة يوليو 2022


Comments

Popular posts from this blog

ماذا ينقص الخيال العلمي العربي ليصبح مرآة مستقبلية؟

ترجمة الفصل الثالث من رواية بوابة المالا نهاية ل مايك كاري