فيلم «سويلنت الأخضر»: ودور أفلام الخيال العلمي في الثقافة الشعبية




عرض قبل خمسين عاما، أي عام 1973، فيلم «سويلنت الأخضر» Soylent Green الذي ما يزال يحتل مكانة خاصة في مجال أفلام الخيال العلمي، إذ تتمثل فيه أهم صفات ذلك المجال، الذي تزداد أفلامه عددا وشعبية في الوقت الحالي، بالإضافة إلى وجود عناصر لأفلام الرعب فيه، ولذلك تعتبر دراسة ذلك الفيلم مدخلا إلى عالم سينما الخيال العلمي، لاسيما أن أحداثه كانت تعبر عن توقعات مؤلفه عن حالة العالم عام 2022 الذي اختبره المشاهد.

والجدير بالذكر أن هذا الفيلم كان من تمثيل بعض أشهر ممثلي السينما العالمية في بداية السبعينيات مثل تشارلتون هيوستن وإدوارد جي روب نسن وجوزيف كوتن.


قصة الفيلم


تدور أحداث الفيلم في مدينة نيويورك عام 2022 حيث يعيش العالم مأساة حقيقية بسبب تلوث الجو وارتفاع درجة الحرارة والزيادة المفرطة للسكان وانخفاض الإنتاج الزراعي إلى مستويات خطيرة، ولذلك فإن سكان مدينة نيويورك البالغ عددهم 40 مليونا في الفيلم، وتعيش الأغلبية العظمى منهم بلا مأوى، وفي فقر مدقع، حيث يقضون الليل نوما على سلالم البنايات ولا يتناولون سوى نوع مقرف من البسكويت يدعى «سويلنت» المصنوع من فول الصويا والعدس، والاسم مأخوذ من دمج كلمتي العدس والصويا باللغة الإنكليزية. وتوزع كميات من هذا البسكويت والماء على شكل حصص صغيرة، ما يثير سخط الناس أحيانا إلى درجة إثارة الشغب. وكانت طريقة الدولة في التعامل مع الشغب استعمال تراكتورات شق الطرق وكأنهم تراب، ما يسبب مقتل العديد منهم. وتقوم الشركة المنتجة لهذا البسكويت بإنتاج نوع محسن منه باسم «سويلنت الأخضر» حيث أضيفت إليه مكونات مأخوذة من مكونات عضوية بحرية. وعلى الرغم من حصول هذا البسكويت الجديد على استحسان السكان، فإن الشركة تخصص يوما واحدا في الأسبوع لتوزيع حصصه في المدينة.



أما الطبقة الغنية البالغة الصغر، فحياة أفرادها مختلفة تماما، حيث يسكن أفرادها في شقق فخمة تحت حراسة مشددة، ويتناولون المأكولات الفخمة. ولا تمتاز هذه الشقق بروعة أثاثها حسب، بل إن فيها جارية حسناء لخدمة صاحب الشقة في جميع «المجالات». وفي شقة الثري وليم سايمنسن (جوزيف كوتن) تبدأ أحداث الفيلم حيث يقترح عليه حارسه الخاص (تشك كونورز) أن يذهب بمعية جارية الشقة (لي تيلر ينغ) للتسوق، إذ أنها تريد شراء لحم البقر، فيوافق الثري ويُترَك بمفرده في الشقة، فإذا بمجرم يحمل قضيبا معدنيا يدخل الشقة ويقول له «إنهم يعتذرون لكن لا يمكن الثقة بك، فهل هذا صحيح؟». ويجيب الثري «غير صحيح، لكنه ضروري». ولا يحاول الثري المقاومة أو الهروب، بل يبقى في مكانه ليتلقى الضربات القاتلة. ويتولى ضابط الشرطة «ثورن» (تشارلتون هيستون) التحقيق في هذه الجريمة. وعلى الرغم من تأكيد الحارس الشخصي لضابط الشرطة أن القاتل كان لصا هاويا اقتحم الشقة للسرقة، فإن ضابط الشرطة يقتنع بأنها عملية اغتيال نظرا لعدم سرقة أي شيء من الشقة، وتركزت شكوكه على الحارس الشخصي الذي غادر المكان في الوقت المناسب تاركا القتيل بمفرده. وسرعان ما يكتشف ضابط الشرطة أن الثري كان عضوا في مجلس إدارة الشركة المحتكرة لطعام «سويلنت» وشريكا سابقا لحاكم نيويورك. وأكدت الجارية له أنه كان مستقيما وطيب القلب ومهذبا. ويجد ضابط الشرطة في شقة القتيل دراسات علمية حول مصادر الغذاء وكحولا وخضراوات لحم البقر الذي اشترته الجارية، ويأخذها جميعا إلى شقته المتهرئة، حيث عرضها على العجوز «سول» العالم المعروف (إدوارد جي روبنسون) الذي يعمل خبيرا لدى الشرطة، ويشاركه في السكن. وأعد «سول» وجبة شهية مما جلبه الضابط من شقة القتيل، وكانت تلك المرة الأولى، التي يتناول فيها الضابط طعاما حقيقيا.


يستمر ضابط الشرطة في تحقيقاته ويكتشف أن هناك من يتتبعه، وأن حاكم المدينة يحاول إيقاف التحقيق، وتزداد شبهاته في الحارس الشخصي للقتيل الثري، حيث اكتشف أنه يسكن في شقة أعلى من مستوى دخله، ومع جارية ما يدل على وجود مصدر دخل سري له. ويقوم هذا الحارس الشخصي بقتل قس كاثوليكي، كان القتيل الثري قد قابله واعترف له بشيء ما. يدرس العالم «سول» التقارير العلمية التي وجدها صديقه ضابط الشرطة، ويعرضها على مجموعة من العلماء الذين يتفقون على أن هذه التقارير تفيد بأن كميات المكونات الغذائية في البحار في تناقص، ولن تستطيع أن تكون مصدرا للسويلنت الأخضر، واكتشفوا أن الدراسات تلمح إلى وجود مصدر سري ومخيف لبسكويت السويلنت الأخضر. ويشعر العالم «سول» باليأس ويقرر إنهاء حياته. وكانت الحكومة قد أسست مراكز خاصة للذين يريدون إنهاء حياتهم، حيث توفر لهم وسيلة غير مؤلمة لذلك، فيذهب «سول» إلى أحدها. وفي هذه الأثناء يحاول ضابط الشرطة اللحاق بصديقه العالم للحيلولة دون إنهاء حياته لكنه يفشل. ويحاول الضابط معرفة مصير جثث الذين ينهون حياتهم في هذه المراكز، وسرعان ما يكتشف أنها ترسل إلى المصنع الذي ينتج بسكويت السويلينت الأخضر، اي أن تلك المادة الغذائية المفضلة لدى سكان المدينة مصنوعة في الحقيقة من جثث الموتى. وهنا يكتشف ضابط الشرطة أن القتيل الثري قد قتل لعدم موافقته على هذه العملية، وأنه، أي الضابط، قد أصبح هدفا للاغتيال لإخفاء هذه الحقيقة. ويطارده فريق من القتلة الذين يحاصرونه في ملجا للفقراء تابع للكنيسة. وعلى الرغم من أنه ينجح في قتل أعضاء فريق الاغتيال، إلا أنه يصاب بجروح خطيرة. وتأتي الشرطة لأخذه إلى المستشفى ويصيح الضابط، أن السويلنت الأخضر مأخوذ من البشر. وهنا تنتهي أحداث الفيلم، لكن الناس أكثر خنوعا من أن يعيروا له أي اهتمام ومدير الشرطة تحت سيطرة حاكم المدينة.



تحليل الفيلم


انتهى عام 2022 في الواقع ولم تحدث مجاعات أو تلوث للجو بالشكل الذي صوره الفيلم، وبالتأكيد لم تعانِ مدينة نيويورك من أي مشاكل مأساوية، بل على العكس، حيث لم تشهد هذه المدينة مستوى معيشة أفضل في تاريخها مما هي عليه الآن. لكن هذا ليست مشكلة بالنسبة للقائمين على الفيلم، حيث كان اختيار السنة 2022 اعتباطيا وكان الهدف منه التركيز على خطر سيهدد البشرية في المستقبل القريب.

كان الفيلم مقتبسا من رواية «افسح مجال! افسح مجال!» Make Room! Make Room! للكاتب الأمريكي هاري هاريسون، نشرت عام 1966. لكن الرواية لم تتناول وجود الجواري، أو صناعة مواد غذائية من لحوم البشر، فقد كانت هذه إضافات من القائمين على الفيلم، حيث كان هدف الرواية المبالغة في فكرة الازدياد السكاني في العالم، الذي سوف يسبب مجاعة عالمية خطيرة بسبب عدم زيادة مصادر الغذاء بسرعة النمو السكاني نفسه. وهي فكرة قدمها عالم الاقتصاد البريطاني توماس مالثس عام 1798. لكن مشكلة البشرية حاليا ليست قلة المعروض من المواد الغذائية، بل السمنة التي تعني زيادة المواد الغذائية المعروضة، من حيث التنوع والكمية. ولا يوجد أي دليل على تعرض البشرية إلى أي خطر مجاعة في المستقبل المنظور.

إحدى سمات الفيلم الخنوع الغريب الذي تبديه شخصياته الرئيسية، باستثناء ضابط الشرطة، فالثري لا يقاوم المجرم الذي يقتله، بل إنه يجلس أمامه مستسلما لمصيره المرعب. ويصطف الناس من أجل حفنة من البسكويت أو لملء قارورات المياه في شكل بائس وكأنهم خراف. وإذا ظهرت بوادر تذمر، فالتعامل معها يتم بأساليب غير إنسانية.


أضاف القائمون على الفيلم عدة جوانب أساسية لم تكن موجودة في الرواية الأصلية. وكان الجانب الأول الجواري لإضفاء جانب جنسي لجذب المشاهدين من الرجال. وكان اختيار الممثلات معتمدا على جمالهن بشكل رئيسي. والغريب في الأمر أن عمل هذه الجارية لا يقتصر على تقديم خدمات جنسية لصاحب الشقة، بل لكل من يدخل الشقة، فمثلا عندما تفحص ضابط الشرطة شقة القتيل أمر الجارية بممارسة الجنس معه. ولم يقتصر خنوع الجاريات على تقديم خدمات خاصة، بل شمل الاستسلام الكامل عند تعرضهن للعنف. والغريب في الأمر أن وجود الجاريات لم يكن غير ضروري حسب، بل إنه لم يثر أي نقد في أوساط الإعلام العالمي وتقبلها الجمهور بشكل مرحب به، ما يشير إلى ميل البعض أو الأغلبية لتقبل هذا النوع من الاحتقار للمرأة، والرغبة في خدمات من هذا النوع وبهذه الطريقة. والغريب في الأمر كذلك أن الفيلم يبين إعجاب جارية القتيل بضابط الشرطة، على الرغم من أنه يستغلها كبقية الرجال، فظهر هذا كمحاولة مضحكة لاختلاق علاقة رومانسية في الفيلم. والجانب الثاني الذي أضيف من قبل القائمين على الفيلم كان صناعة المواد الغذائية من اللحوم البشرية. ومن الواضح أن الهدف من هذه الإضافة كان زيادة التأثير الدرامي للفيلم على المشاهد. وقبل أن يفكر المشاهد في هذا الجانب، فقد أكد العلماء أن استهلاك اللحوم البشرية لن يسد أي نقص في المواد الغذائية لكون كمية اللحوم في الشخص العادي قليلة مقارنة بالخراف والأبقار مثلا، وكون نمو الإنسان بطيئا جدا مقارنة ببقية الحيوانات. ويضاف إلى ذلك أن استهلاك اللحوم البشرية يشكل خطرا حقيقيا على الصحة. أما الجانب الثالث، فكان اتفاق الطبقة الحاكمة مع الشركات الكبرى على خداع الشعب لجعله يستهلك منتجات تلك الشركات، دون معرفة حقيقتها. وتعامل الطبقة الحاكمة مع كل من يحاول معرفة الحقيقة وإخبار الناس بها. وبهذه الطريقة يبين الفيلم خوف المشاهد من الدولة التي تستطيع خداعه بسهولة لأهدافها الخاصة.

لم يحاول الفيلم تقديم أي علامات للتقدم التقني مثل أجهزة الكومبيوتر على الرغم من أنها بدأت في فترة إنتاجه أو الهاتف النقال الذي كان ظهر في أعمال سينمائية في الستينيات، بل إن مدينة نيويورك بدت وكأنها في أوائل الستينيات. وكان غريبا أن وحدة الوزن التي يستعملها الناس في الفيلم كانت الكيلو بينما ما تزال الولايات المتحدة الامريكية تستعمل الباوند.


أفلام الخيال العلمي


لم تكن أفلام الخيال العلمي جيدة في توقع المستقبل، فلم يسيطر الذكاء الاصطناعي على العالم ويقضي على البشرية، ولم يقضِ فيروس على البشرية، ولم يأت زوار من الفضاء الخارجي حتى الآن. وهي في الحقيقة ضعيفة العلاقة بالعلم على اختلاف أنواعها وضعيفة المنطق. ومما يزيد من ضعف علاقتها بالعلم التلاعب البالغ بالأحداث والمنطق لخدمة الفكرة، بينما ينص العلم على أن الفكرة تستخلص من الحقائق والتجارب، وتتغير على هذا الأساس. ومن الملاحظ أن هذه الأفلام تحاول استغلال الخوف الطبيعي لدى المشاهد على سلامته الشخصية ومستقبله، وتبين أن إنسان المستقبل سيكون فرديا جدا وبائسا، فقلة الرومانسية واضحة فيها والتعايش الاجتماعي ضعيف، وتركز كذلك على مخاوف مبالغ فيها إلى درجة تجعلها أقرب إلى أفلام الرعب. ومن الممكن أن سبب اهتمام المشاهدين بهذه الأفلام فضول المشاهد لمعرفة الدرجة القصوى الممكنة للشر في الحياة، ما يثير رغبته في الدفاع عن نفسه، وقد تشعره هذه الأفلام في الوقت نفسه بالسعادة لكونه ليس جزءا من المأساة التي يشهدها. ويظن بعض الخبراء أن هذا يؤقلم المشاهد بشكل غير مباشر للتعامل مع المواقف الخطيرة في حالة حدوثها في الحياة ويقلل من قلقه. لكن أفلام الخيال العلمي في الوقت نفسه قد تجعل المشاهد أكثر تقبلا للقسوة وتضعف علاقته بالواقع، بل إنها تجعل المأساة بالنسبة له شيئا مثيرا وممتعا، وتجعله أقل قدرة على التمييز بين الحقيقة والخيال. ومما يزيد من تأثير الفكرة التي يقدمها فيلم الخيال العلمي كون أحداثه قد تحدث في أي زمن أو مكان وتتلاعب بكل عناصر القصة لترسيخ الفكرة في ذهن المشاهد. لكن كل هذا لم يكن أبدا عائقا أمام نجاحها تجاريا، فالمشاهد يدخل في عالم الفيلم ما يجعله غير آبه بهشاشة منطقها وعدم ترابط الأحداث في الكثير منها، وحتى بالنسبة للأفلام التي احتوت على أفكار سياسية أو اجتماعية عميقة مثل فيلم «غزو خاطفي الأجساد» Invasion of the body Snatchers الذي أعيد إنتاجه مرتين و«استعراض ترومان» The Trueman Show.

تمثل أفلام الخيال العلمي حاليا جزءا مهما من صناعة السينما العالمية. وكان أول فيلم من هذا النوع فرنسيا وأنتج عام 1902 بعنوان «رحلة إلى القمر» المأخوذ من قصة شهيرة للكاتب الفرنسي جول فيرن، أما أول فيلم شهير لهذا النوع من الأفلام، فكان الفيلم الألماني «ميتروبوليس» Metropolis (1927). لكن الموجة الجديدة من الأفلام الناجحة بدأت بفيلم «2001: ملحمة فضائية» 2001: A Space Odyssey (1968) للمخرج ستانلي كوبريك، وتلاه نجاح سلسلة «حروب نجمية» Star Wars التي بدأت عام 1977.

ستستمر أفلام الخيال العلمي في نجاحها بسبب سهولة صناعتها، فبالنسبة للمؤلف يمثل انعدام وجود الحدود التي يفرضها الواقع فرصة ذهبية للتلاعب بالأحداث كما يشاء لتقديم فكرة ما. ويستطيع الممثل أن يقدم شخصية الخيال العلمي بسهولة لعدم قدرة المشاهد على المقارنة بأي شخصية حقيقية، وبالتالي معرفة جودة التمثيل. وأتاحت التقنيات الحديثة وبرامج الكومبيوتر للمخرج أن يستعمل مختلف الخدع السينمائية التي تبهر المشاهد.


كتب المقال زيد خلدون جميل ونشر في موقع القدس مارس 2023


Comments

Popular posts from this blog

ماذا ينقص الخيال العلمي العربي ليصبح مرآة مستقبلية؟

ترجمة الفصل الثالث من رواية بوابة المالا نهاية ل مايك كاري