قفزة دي كامب الكبيرة في الخيال




ساعدت قصص الخيال العلمي القصيرة والمقالات العلمية التي كتبها دي كامب خلال عامي 1938 و 1939 في استبدال شاعرية العصر التكنولوجي بنبرة جديدة من العقلانية والفكاهة الجيدة. حيث قدمت حجة قوية لشرعية وقيمة وقوة الطبيعة البشرية. ومالت إلى اقتراح أن بقاء والتقدم العاجل  للإنسان لن يأتي عن طريق التطور الطبيعي  ، والتي هي  عملية بطيئة وتدريجية طويلة المدي موثوق في قدرتها علي صيانة نفسها  ، بل من خلال التقدم العلمي ، والبراعة المتراكمة في  المبادئ العملية الكونية . كان هذا العمل المبكر ( قصة Lest Darkness Fall) مفيدا ، بل ضروريا، و رغم ذلك اتت مساهمة دي كامب الأصلية والأكثر أهمية من  الروايات والقصص التي بدأ في كتابتها منفردا او لصالح  مجلة Unknown ، المجلة التي اصدرتها  دار الناشرة مجلة  Astounding.


كانت مجلة Astounding.، والتي بدأ نشرها  1939 ،  المقياس الحقيقي لشمولية ومهارة  جون كامبل. فكانت تتويجًا لتجاربه التحريرية المبكرة  في شكل ومحتوى الخيال العلمي.


كانت مجلة Unknown،  بالنسبة لـمجلة Astounding مثلما  كانت عليه مجلة  All-Story ذات مرة بالنسبة إلى مجلة  Argosy - شقيق أقل رصانة  وأقل مسؤولية وأقل تقديرا . حيث كانت مكان للمؤلفي الخيال العلمي ليحصلوا فيه على بعض المتعة دون محاسبة صارمة على ذلك.


في المظهر الخارجي ، بدت مجلة Unknown كأنها ليست مجلة خيال علمي على الإطلاق - على الأقل ليس خيالًا علميًا كما قد رأه هوغو غيرنسباك.- بدلاً من ذلك ، قدمت نفسها على أنها مجلة للفانتازيا التقليدية ، تنشر قصصًا عن الآلهة والسحرة والجينات والشياطين والاقزام . 


لكن كان هذا المظهر خادعًا. لدرجة أن الادب الذي نشر في مجلة  Unknown بالكاد يمكن أن يطلق عليه نوعًا من الفانتازيا ، فكان شكل الفانتازيا المكتوب بها كما لو كان تنويعا للخيال العلمي الحديث. فالسحر لديها لا يقوم على الأمور الروحية ، كما هو الحال في الأساطير التقليدية. ولكن يمكن اعتباره نوعًا آخر من العلوم ، نتيجة لعملية المبادئ العملية الأساسية البديلة - والتي أطلق عليها دي كامب وزميله فليتشير برات "قوانين السحر".


في الواقع ،  العديد من القصص المنشورة في مجلة  Unknown لا تشبه الفانتازيا التقليدية إلا قليلاً  بل كانت  قصص خيال علمي معاصرة مع بعض المنعطفات المستحيلة في الحبكة  أو الافتراضات الغريبة.


حين يصادف كامبل قصة جيدة ولكنها لا تلتزم بالمعايير الصارمة للمعقولية والموضوعية الذي كان يحاول تأسيسها في مجلة Astounding ، كان يري انه من الانسب لها أن تكون القصة  قابلة بأن توسم بصفة الفانتازيا  ليقوم بنشرها في مجلة  Unknown.


ونظرًا لأن كامبل كان يعتمد في النشر علي مجموعة من مسودات القصص ذات سمات مشتركة  ، فبدي أحيانًا أن هناك درجة من التعسف في قراراته فيما يتعلق بأي قصة ستنشر في أي مجلة. على الأقل مع بعض القصص التي نشرها - مثل قصة دي كامب عن غزو الفضائيين "فرق تسد" ، على سبيل المثال - فقد تظهر بسهولة في مجلة اخري ايضا


ولكن كان في ذهن كامبل ومخيلته  تمييز فاصل وجوهري بين مجلتيه . ولأجل مساعدة مؤلفيه في تصوراتهم  القصصية ، كان يخبرهم صراحة: "أقوم بتحرير مجلتين ، Astounding و Unknown . بالنسبة ل مجلة Astounding.، أريد قصصًا جيدة ومنطقية وممكنة. و بالنسبة لمجلة Unknown ، أريد قصصًا جيدة ومنطقية. "


وكان هذا يعني فعليا أن يكون الأعمال الموجه لـمجلة  Astounding  قصصًا عن المستقبل والفضاء الخارجي - أي الاتجاه السائد لامكانيات الخيال العلمي. اما مجلة Unknown  فيكون اختصاصها الوقائع المتنوعة


وفي سياق هذا العصر ، كانت مجلة Astounding  أكثر أهمية ومنخرطًة في العمل الجاد المتمثل في استحضار مستقبل الإنسان إلى الوجود. اما مجلة Unknown  فكانت  لمجرد المتعة والترفيه.


بالعودة إلى فيلم The Skylark of Space ، قد دفع إي.إي.سميث شركائه إلى نبذ افكار أينشتاين والانطلاق بعيدًا نحو النجوم بسرعة فائقة ، قائلاً: "نظرية أينشتاين ليست سوي مجرد نظرية. اما تلك  المسافة فهي حقيقة واقعة ". لكن دي كامب ، رجل العقل الجديد في العصر الذري ، وفضح سذاجة العصر التكنولوجي ، كان عاجزًا تمامًا عن هذا التهور في الخيال


ونظرا لأنه لم يستطع ان يعرف كيف يقفز بخفة من هنا إلى هناك ، فلم يكتب دي كامب عن المستقبل أو الفضاء الخارجي. فأبقي تأليفه الصارم لقصصه الخيال علمية في مجلة Astounding محدودة بعض الشئ لتدور احداثها على الأرض.


ولكن بالنسبة لقصصه التي نظر إليها على أنها "خيالية" وكُتبت لـمجلة   Unknown ،فاختلفت اختلافًا جوهريًا عن قصص "الخيال العلمي" المخصصة لمجلة   Astounding  ، فلم يكن متوقعا  ان تكون القصص المخصصة لمجلة   Unknown  محتملة الحدوث  وقمما د حرر خيال دي كامب


على سبيل المثال ، وفقا للعمل  لمعايير مجلة   Astounding ، لم يكن دي كامب قادرًا على تخيل قصة "The Gnarly Man" ، وهي عن رجل ما قبل التاريخ يتعامل بسهولة مع تحديات العالم الحديث. فبأي وسيلة ممكنة يمكن لإنسان النياندرتال البقاء على قيد الحياة لمدة 50000 سنة ، دون أن يتقدم في العمر؟ بالتأكيد لا شئ ، وهذا ما ادركه دي كامب كرجل علم عقلاني. لكن الكتابة في سياق مجلة   Unknown ، سُمح له بافتراض أن انسان النياندرتال قد تعرض لتغير فسيولوجي سببته  ضربة برق  (فكرة تقليدية بحتة)  ، ثم مضي في متعة خالصة في تخيل كيفية تفاعل الناس المعاصرون معه ، وتفاعله معهم 


أعطت مجلة  Unknown ترخيصًا لـ دي كامب ان يأخذ حريته  في الخيال - وقد كان متوقعا بعد ذلك أن يطوره بشكل منطقي وصارم. فلم يكن بإمكان جون كامبل ابتكار شكل ابداعي أكثر ملاءمة لطبيعة ومعارف هذا الكاتب بالذات.


إذن ، في قصة مثل Lest Darkness Fall (نشرت في مجلة  Unknown ، ديسمبر 1939) ، شعر دي كامب -الذي لم يكن قادرا   وبضمير مستريح علي الكتابة عن آلات الزمن- بالحرية في افتراض وجود صاعقة أخرى - "وقد صارت أصل فكرة ومضات البرق فيما بعد " - تلعب دورا في انتقال  بطل الرواية - مارتن بادواي - إلى لحظة حاسمة في تاريخ اوروبا (سقوط روما الاخير).  ومن هذه النقطة ، أمكن ل دو كامب أن يلعب لعبة (ماذا لو) والمضي قدمًا في كتابة رواية حول تطبيق الاسس العاملة مع احتياجات زمن باكر وغرس التقدم العلمي في الازمنة الغابرة


لقد اسست قصة Lest Darkness Fall بقوة لدي كامب  باعتباره الكاتب النجم في ـمجلة Unknown. وكان النموذج الواضح لهذه القصة هي قصة مارك توين    A Connecticut Yankee  King Arthur’s Court (1889). لذا ينظر لقصة Lest Darkness Fall على أنها محاولة لاعادة كتابة قصة مارك توين  بنحو صحيح - أي بمصطلحات العصر الذري.


  في كلتا القصتين ، انتقل الأبطال  إلى الماضي من خلال حوادث غير متوقعة.  فتم إرسال بطل قصة مارك توين  عبر الزمن نتيجة لضربة على رأسه  ، بينما تم ارسال بطل قصة  دي كامب إلى الماضي بواسطة صاعقة برق. وكانت مكان وصوله  أوروبا في القرن السادس الميلادي ، عشية عصر الظلام.  واصبح هدف كلا الرجلين  تغيير الماضي.


لكن في تلك النقطة ، اختلفت القصتان بمهارة و شكل كبير


 كان بطل قصة توين من عصر التكنولوجيا ،  صانع أدوات ومحركات ومشرف على الاخرين.   رجل يعرف كيفية بناء الآلات والسيطرة علي القوي العاملة.  وكان دافعه  ان يسموا بالعالم  التاريخي و الأسطوري الذي دخله الي مستوي  يروق له  وهذا هو ما يعرف كيفية القيام به ، سوف يصنع البنادق والسكك الحديدية والأضواء الكهربائية وسينطلق في تحويل انجلترا زمن الملك آرثر إلى صورة طبق الأصل من أمريكا  القرن التاسع عشر سواء أحبها الفلاحون  أو لا. 


 ولكن نظرًا لأن قصة الملك آرثر التي نعرفها لا تسير على هذا النحو ، فوجب عليه في النهاية الذهاب في النوم سببه شراب منوم  ادي الي اعادته إلى الحاضر. بواسطة  الساحر مارلين الذي كان له اليد في حدوث ذلك ، ووجب علينا في النهاية ان نتقبل كل ما حدث بين ضربة  الرأس في بداية القصة و الشراب المنوم  في نهايتها كحلم أو هلوسة.  


ومع ذلك ، كان دي كامب هو المستفيد  من جميع قصص السفر عبر الزمن والابعاد التي كُتبت في الخمسين عامًا التي تلت قصة مارك توين  رغم  أنه نفسه من كان يأنف  آلات السفر عبر الزمن التي ابتدعها جورج ويلز المصنوعة من المعدن والعاج والكريستال و المستحيلة علميا.  في بداية احداث Lest Darkness Fall ،و قبل   ضربة الصاعقة  ، قامت شخصية في القصة بوضع نظرية شبيهة بنظرية ويلز عن الوقت ووصفها كشجرة لها أفرع عديدة: 


"كنت أقول ان كل هؤلاء الأشخاص الذين اختفوا   ، قد انزلقوا  إلى .  جذع شجرة الزمن.  وحين يتوقفوا عن الانزلاق ، فإنهم يعودون الي زمن سابق ،ولكن بمجرد أن يقوموا بأي شيء ، فإنهم يغيروا كل التاريخ اللاحق.  .  .  .  الجذع لا يزال موجودًا كما هو .  لكن فرع جديد ظهر من حيث حلوا ف الزمن ". 


 كانت تلك طريقة مناسبة رغم ان ضربة البرق ربما كان صعبا أخذها على محمل الجد كأداة للسفر عبر الزمن.  حين وجد مارتن بادواي نفسه انتقل إلى فترة تاريخية معروفة - ايام اجتياح روما في عام 535 م ،و يحكمها ملك القوط الشرقيين وعلى وشك أن تمر بغزو من قبل جنرال بيزنطيني لامع ، بيليساريوس - فلم يكن حلما ييجد نفسه عاد سريعا   للقرن العشرين ،   إنه موجود في روما بالفعل ، موجود بها للأبد. 


 علاوة على ذلك ، هو ليس  مقيدا  بما تمليه كتب التاريخ من أحداث ذلك الوقت.   موقنا بأن أي اجراء  سيتخذه ،يمكنه به تغيير مجرى التاريخ. و خلق واقعًا جديدًا بالكامل إن كان ذكيًا وقادرًا بما فيه الكفاية.  


وعلى عكس  قصة مارك توين ، الذي يرى أن بريطانيين القرن السادس ليسوا أفضل من الأطفال أو الحيوانات ، فإن مارتن بادواي -وهو ديمقراطي من العصر الذري-   يحب ويحترم بصدق الأشخاص الذين حل ف زمنهم . فعبر دي كامب عن ذاته ، بان هؤلاء الإيطاليون الذين تم تقديمهم ف القصة باختلاف اعراقهم ، قوط ووندال وسوريين ويهود ويونانيين الخ ، وبكونهم  بشر مألوفون وطبيعيون ولائقون وغير معصومون من الخطأ لا يختلفوا كثيرًا في طبيعتهم عنا. 


 ولا يتميز بادواي عنهم  بأنه انسان اكثر تفوقا او أعلى في السلم التطوري  ، بل في درجة المعرفة والموضوعية الأكبر نسبيًا.لقد كان لديه نذر ومعرفة بما سيجري تاريخيا  قبل ان يتدخل فيه وهو أيضًا رجل ذو اعداد  علمي ، وريث قرون ماضية من التقدم العلمي الغربي. 


 لم يكن  دافع بادواي في محاولة إعادة خلق القرن العشرين في روما  القرن السادس ، او إقامة ناطحات سحاب بجانب الكولوسيوم.  في الواقع ، لم يعتقد للحظة أن شئ كهذا سيكون ممكنًا.  بل كان مدركا تمامًا لطبيعة اللحظة التي وجد نفسه فيها 


 كان يعيش  عشية سقوط الحضارة الغربية الكلاسيكية.  وعصر الإيمان المعروف باسم العصور المظلمة كان ينبلج ، وستدخل أوروبا في الظلام ، علميا وتكنولوجيا ، لما يقرب من ألف عام.  كان هذا الامر ، بالنسبة لعقل بادواي ، الجانب الأكثر أهمية و الوحيد ، من الحضارة.


حتما سيتساءل بادواي: "هل يمكن لرجل واحد أن يغير مجرى التاريخ إلى الحد الذي يمنع  الانقطاع الحضاري ؟"  


يبدو الأمر كما لو أن بادواي طبيبا  تم جلبه إلى فراش حضارة محتضرة ليمنحها حقنة وعلاجا  لما هي اكثر احتياجا اليه .  هذا ليس بتحديث   ، بل  عملية زرع ابتكارات وتقنيات تلائم  العصور الوسطى وعصر النهضة ، أشياء قد تعمل على بدء آلية التقدم العلمي. 


 لذا فإن بادواي قدم الأرقام العربية ، العربات ذات الاحصنة، التقطير ، التلسكوب ، التلغراف والسيمافور ، الورق والطباعة ، البريد والمدارس.  وحين يقترح اخر شئ  ، يقول صراحة ، "سأعلم أشياء مهمة حقًا، رياضيات وعلوم وطب. اعرف اي مكان   سأدون فيه كل تلك الكتب المدرسية بنفسي


في نفس الوقت كان هناك  غزو لجيوش بيزنطة لروما فاصبح بادواي  متورطًا بالضرورة في أنشطة عسكرية وأمور سياسية مثل بطل مارك توين ايضا ، لكنه قد راي  تلك الامور فقط كوسيلة .  يقول: "في النهاية أشياء مثل امور السياسة والجيش. قد لا تحدث أي فرق بعد مائة عام من الآن ، لكن الأشياء الأخرى كالتليغراف والطباعة ستحدث ، كما آمل ".


 وبحلول نهاية القصة ، أصبح مقتنعًا بأنه قد نجح.  ايا كان ما سيصيبه ، فإن هذه الأشياء التي قدمها أصبحت الآن شائعة للغاية ومتجذرة  بحيث لا يمكن أن تختفي.  لقد تغير التاريخ.  لن يحل الظلام - على الأقل ليس على هذا الفرع الجديد لشجرة الزمن..

مقال ل اليكسي و كوري بانشين نشرضمن مجموعة قصصية ل دي كامب بعنوان  Lest Darkness Fall and others 

Comments

Popular posts from this blog

ماذا ينقص الخيال العلمي العربي ليصبح مرآة مستقبلية؟

ترجمة الفصل الثالث من رواية بوابة المالا نهاية ل مايك كاري