12قرد.. البداية هي النهاية والنهاية هي البداية



يعرف كل العشاق المخلصين لأفلام الخيال العلمي - بكل تأكيد - الفيلم  الفرنسي التجريبي القصير  La jetée الرصيف، الذي أخرجه كريس ماركر  ،Chris Marker في عام  ،1962 والذي اعتبر منذ وقت عرضه  واحدا من أهم الأفلام التي يعود لها الفضل في إحداث نقلة نوعية في سينما  الخيال العلمي لاحقا، ليس فقط من حيث الفكرة، ولكن أيضا من خلال  أسلوب تنفيذها غير المعتاد؛ الذي اعتمد فقط على صوت الراوي، مع تتابع  مستمر للصور الفوتوغرافية على مدار أكثر من نصف ساعة، ونجح الفيلم  بالقليل جدا أن يصنع لنفسه الكثير.


 امتد تأثير هذا الفيلم القصير للأجيال التالية من محبي أفلام الخيال  العلمي  ، ومن بين هؤلاء المنتج المنفذ روبرت كوسبيرج، الذي كان شغوفا بما  حققه ماركر في عمله التجريبي الأشهر، وهو ما دفعه لإقناع ماركر باقتباس  العمل وتحويله إلى فيلم  سينمائي طويل وهو ،Twelve Monkeys  الذي قام بكتابة السيناريو له كل من دافيد وجانيت بيبولز، وأخرجه تيري جيليام الذي يعرفه الجميع من خلال عوالمه السينمائية الغرائبية، والذي  نجح في تحويل العمل إلى واحد  من أهم المنجزات السينمائية في فئة الخيال  العلمي خلال حقبة التسعينيات.


في المشاهدة الأولى، قد يبدو أن الفيلم صعب الهضم وصعب المتابعة، لكن  مع تتابع المشاهد ستكتشف مدى الدهاء الشديد الذي كتب به السيناريو،  وحس المراوغة الذي يتمتع به، واضعا المشاهد في نفس حالة أبطاله من اللا يقين حول ما يحدث بالضبط، خاصة بفضل مزجه لأكثر من تيمة ٍ واحدة من التيمات الأصيلة في أفلام الخيال العلمي: نهاية العالم، والسفر عبر الزمن، والمنظور المضطرب للعالم بفعل الجنون.


يعمل السيناريو منذ بداية التترات على تغذية الإحساس باللايقين حيال القصة التي نشهدها، فهو في بداية الفيلم يصدر مقولات جيمس كول خلال فترة إقامته في مستشفى الأمراض العقلية، عن ما سيحدث؛ من  نهاية للعالم، وموت مليارات البشر بفعل فيروس مميت، ثم يعمل طوال الوقت على التلاعب بشكل  ذكي بمنظور المشاهدين للقصة، وليس على  مسار القصة نفسها. 


 يستغل  السيناريو سير الحكاية على نهج الانتقال المستمر بين الأزمنة، مع إحساس اللا يقين نحو بطل الحكاية نفسه، الذي لا نعرف حتى بعد مرور النصف الأول من الفيلم مدى سلامته العقلية، وما إذا كان كل ما يقوله حقيقي بالفعل أم من صميم الخيال، وذلك من أجل تعزيز حالة الإيهام نحو لا خطية الحكاية نفسها وتراوحها زمانيا، بينما هي في الحقيقة - وهو ما يتضح في المشاهدات اللاحقة - حكاية تسير بشكل  خطي مرتب ، وكل سبب فيه يؤدي إلى نتيجة منطقية مترابطة ، المسألة كلها كانت تعتمد على التلاعب بالمنظور لدى المشاهد نفسه. 


ما يعزز هذا المنظور أكثر لدى المشاهد هو جيمس كول، الذي وصل هو نفسه لمرحلة لم يعد يتبين فيها الحقيقي من الخيالي، ما هي الأشياء التي تستند إلى ذكرياته ومعايشاته بالفعل، وما هي التي يظنّها كذلك  وليست من صميم الذكريات والمعايشات. كتاب السيناريو يدفعوننا دفعا  نحو الدوران مع جيمس كول في نفس الدائرة الجهنمية التي يدور بها، ّ ومن هنا نتماس مع همومه الشخصية التي تنبع في الأساس من افتقاده للحياة الطبيعية بسبب نضوجه بعد ضياع كل شيء على وجه البسيطة. 


من العوامل التي تساعد على التلاعب بالمنظور أيضا؛ الخلط عن عمد بين الذكريات والأحلم، وهو الأمر الذي لا تنكشف حقيقته سوى مع نهاية الفيلم؛ أي المستوى الواعي والمستوى اللواعي بالنسبة لجيمس كول، وذلك من خلال المشهد المتكرر على مدار أحداث الفيلم حينما تقع جريمة قتل  داخل أحد المطارات، وفي كل مرة تتغير  تفصيلة معينة ، ولكن يظل منظر الطفل الذي يراقب الحدث عن كثب كما هو. 


ومع الفراغ من المشاهدة، سيكتشف المشاهد مدى نضوج الفيلم فكريا؛ ٍ حينما تعامل مع فكرة الزمن الذي يراه كحلقة مفرغة، ندور فيها حتى لو امتلكنا القدرة على الحراك في سياقه، وحتى وإن كل ما نفعله سيترك أثره. إن عاجل أو آجل


كتب المقال محمود راضي في مجلة منشورات ويلز يناير 2018

Comments

Popular posts from this blog

ماذا ينقص الخيال العلمي العربي ليصبح مرآة مستقبلية؟

ترجمة الفصل الثالث من رواية بوابة المالا نهاية ل مايك كاري