نقوش .. قصة قصيرة ل أحمد خالد توفيق

نقوش .. قصة قصيرة ل أحمد خالد توفيق



 قال البروفسور ماساتو ساكاي بإنجليزيته التي هي أقرب لليابانية:

- «نحن نقترب من الحل.. المشكلة ليست بهذا التعقيد».

لم يعلق واحد من الفريق. فالمشكلة كانت فعلاً بهذا التعقيد، بل أكثر بمراحل.


***************


الدوامة التي دخلها عماد كانت أكبر من قدرته على الفهم.. أكبر من تحمل جهازه العصبي… أكبر من قدرات جهازه التنفسي. لم يتساءل من قبل عن شعور مسمار المثقاب وهو يخترق الخشب، لكنه يدركه الآن. رأى ذات مرة فيلمًا عن ظروف تدريب رواد الفضاء على تحمل الطرد المركزي، ورأى كيف يغيبون عن الوعي ويتدلى لحم وجوههم ويسيل لعابهم. تذكر هذا الفيلم في تلك اللحظات. ترى هل لعابي يسيل؟.

قال لنفسه:

- «أنا أموت.. إن هي إلا لحظات وتمر بسرعة، ثم أفيق في الجانب الآخر».

لكن المشكلة هي أن اللحظات لا تنتهي. يبدو كأن الأمر أبدي بلا نهاية.


ثم جاء الظلام الرائع.. الظلام المحبب.. فقدان الوعي الرحيم. لابد أنها أسعد لحظة يعيشها من تلتهمه النيران أو هو بين أنياب أسد.

ثم بدأ يرى ضوءًا في نهاية النفق.. هل هذا نفق؟.


ذكريات ضبابية عن انطلاقه بالطائرة.. القاعدة الجوية المصرية في ظلام الليل والإشارات.. الفضاء.. والأرض تتحول لصفحة سوداء كبيرة..

ماذا حدث بالضبط؟ عاصفة رعدية.. غمامة سوداء ينبعث منها الشرر كأنها وحش إغريقي غاضب.


برج المراقبة قال له إن هناك عاصفة رعدية تقترب، وصدر له الأمر بالعودة.. لكن الكلام سهل. لقد دار دورة سريعة في الفضاء ثم هبط بشكل عمودي، وهو ينوي أن يعود أدراجه إلى القاعدة الجوية، لكن لسان برق عملاقًا خرج من مركز الغمامة ولطم الطائرة.


بعدها بدأ الكابوس. كان ينجذب إلى داخل العاصفة، وداهمه شعور عارم بأن هذا لسان وحش يلتقمه كذبابة. حرباء كونية ظفرت به ولن يستطيع الخلاص من صمغها اللاصق.

صرخ في مكبر الصوت:

- «الله أكبر!… إنني أموت!!».


الأمر سهل ولا يحتاج لتفكير طويل.. سوف يدخل الدوامة فتتحطم الطائرة أو تصعقه الكهرباء، أو تتعطل الطائرة فتهوي إلى الأرض من ارتفاع خمسة كيلومترات… في كل الأحوال هو الموت ولا شيء سواه..

على التابلوه رأى الصورة الصغيرة لمها مع أشرف…


هما الآن نائمان على الأرجح، يحلمان أحلامًا سعيدة، ولا يعرفان أن العمل جارٍ على قدم وساق لتحويلهما إلى أرملة وطفل يتيم.. هذا بالطبع لو لم تكن القدرات الخارقة شيئًا حقيقيًا، فتكون مها ترى هذه المشاهد معه الآن وتتقلب في الفراش غارقة في العرق..


لسان برق آخر يضرب الطائرة..

ثم دخل الدوامة المخيفة..


***************


الحياة في (زور) لم تكن كئيبة.

في كل يوم هناك شيء جديد تتعلمه أو تعرفه. هناك (ألتيما) العظيم الذي يعرف كل شيء تقريبًا ويمكنك أن تتصل به بسهولة في أي لحظة عن طريق الشاشات الزئبقية الموجودة في كل مكان. فقط أنت تنظر للشاشة طويلاً وتقول:

- «أزل الظلام يا زور».

فتزول الغيوم على الشاشة ويظهر بوجهه المميز الأخضر، ويجيب عن أسئلتك..


لم يستطع عماد قط أن يعرف هل (ألتيما) صورة رقمية يصنعها الكمبيوتر أم هو رجل غريب الشكل فعلاً. لكن من العسير في هذا العالم أن تتحدث عن الكمبيوتر أصلاً. لا يوجد شيء اسمه الكمبيوتر.. كل ما تعلمه هو أن المادة ذكية حية وتجيب عن أسئلتك فورًا.

هكذا كان يقضي الساعات أمام الشاشات يعرف منها كل شيء.


لم يكن (زور) شبيهًا بالعوالم التي تجوب في ذهنك.. إنه أقرب إلى بطانة رحم عضوية دافئة تنبض وتسيل.. وأنت تمشي بين ردهات تذكرك بقنوات فالوب كما كنت تراها في صور المنظار الرحمي في كتب الطب الخاصة بأخيك..


المواطنون هناك كانوا يبدون كالبشر، وإن كانوا أكثر نحولاً وحزنًا. فيهم شفافية بلورية غريبة.. لكن أسماءهم صعبة جدًا. لا يمكنك أن تعيش مع شخص اسمه (بببببتنمكارروسان)، وهم لا يستعملون طريقة التدليل أو التبسيط…


كان هناك في بيت (كيفياليبانماياسوش). كان يرقد في فراشها وينظر للسقف الذي ينبض والذي تتدفق فيه شرايين حية….. جدران ذات شرايين!. وكانت (كيفياليبانماياسوش) جميلة جدًا طويلة الأطراف لها أصابع يدين ملتصقة تزيدها جمالاً – لا أدري كيف – ربما لأنها تذكره بتلك الفتاة الجميلة التي كان الفنان بيكار يرسمها دومًا.


لم تكن تتكلم لكنه يسمع أفكارها بوضوح تام:

- «أنت في (زور)».

حاول أن يتكلم لكن الصوت لم يخرج. فقط خرجت أفكاره:

- «أين يوجد (زور)؟».

- «زور هو الكل الذي نحن فيه.. أنت دخلت دوامة زمنية ومكانية وفيزيائية، واليوم صرت منا».


لم يستطع الفهم.. لكنها في ذلك اليوم اقتادته عبر الممرات، وهناك كانت فتحة تنبض وتخفق كأنها صمام في قلب، وعبر الفتحة استطاع ان يرى العالم الخارجي..


العالم الخارجي كان أرضًا زرقاء تمتد إلى ما لا نهاية، وسماء حمراء بلون الدم… واستطاع أن يرى ديناصورات عملاقة تمشي في الخارج.. أرجل هائلة مكسوة بشعيرات دقيقة.. عندما رفع عينه أكثر أدرك أن هذه ليست ديناصورات تلك التي تمشي حولهم.. إنها صراصير عملاقة!


ما أفزعه أكثر هو أن (كيفياليبانماياسوش) خرجت من الفوهة النابضة وراحت تمشي بين تلك الأرجل بلا وجل… وأدرك أن هناك نملة عملاقة تدنو منه..


في أفكاره صرخ:

- «نحن أقزام!.. الحشرات أكبر منا بمراحل.. نحن في حجم البكتريا!».


جاءت أفكارها الهادئة:

- «لا توجد حقائق.. نحن في عالم نصير فيه أقزامًا.. غدًا نكون في عالم نصير فيه عمالقة. (زور) عالمنا يرتحل بين الأكوان والمسافات».

- «هل نحن في المستقبل؟».

- «لا يوجد ماض ولا مستقبل بالنسبة لنا. لا توجد نقطة ثابتة.. غدًا نكون في ماضي عالم.. وبعد غد نكون في مستقبل عالم آخر».


(زور) متغير.. (زور) يرتحل عبر الأبعاد والعوالم. (زور) اليوم في مجرة وغدًا يكون في مجرة أخرى…

كان عليه أن يفهم هذه الحقائق، برغم أنه يعرف جيدًا حقيقته: هو طيار مصري دخلت مقاتلته في دوامة كهربية، وهذه الدوامة نقلته لعالم آخر له قواعد مختلفة. كيف يعود لعالمه الأصلي؟ لا يعرف..


قالت أفكارها له:

- «يومًا ما ستجد العالم الذي جئت منه.. لربما وجدت نفس الزمن كذلك. عندها يمكنك أن تتركنا. أما اليوم فأنت لن تستطيع الحياة وحيدًا في عالم تحكمه البراغيث أو تحكمه البكتريا..».


هكذا بدأ عماد يعتاد الحياة في هذا الحلم. لم يكن حلمًا كريهًا على كل حال. هناك الكثير مما تكتشفه وهناك الكثير مما تتعلمه، وفوق هذا كله هناك السلام.


ولا يعرف كيف ولا متى وجد أنه قد تزوج (كيفياليبانماياسوش). لقد تسلل الحب للقلبين برغم اختلاف العالمين.


قالت لألتيما العظيم:

- «امنحه لي. فأنا أريده زوجًا. أحب أن أعلمه أشياء».


جاء الجميع يحيونه ويقدمون له الشيناتا.. الشيناتا هي هدية العروسين هنا، وشرحها معقد بعض الشيء. وخلال أسبوعين من زمننا تكور بطنها وصارت حاملاً، ثم أنجبت طفلاً جميلاً يشبهها جدًا. اتفقا على أن تسميه (جراموسانتافونمك).. هو فضل أن يسميه (أشرف) حتى يشعر بألفة. لربما يرى ابنه مرة أخرى يومًا ما….


كان لديه الكثير ليعرفه، لكنه كذلك أدرك مع الوقت أن لديه ما يقدمه لهم.


برغم كل شيء لم يبتلع عماد فكرة أنه صار من مواطني (زور). كان يحمل كل ذكرياته وحنينه للأرض، ويشعر بشوق عارم لزوجته. ترى إلى أي مدى يعتبر زواجك من كائن في بُعد آخر خيانة لمها زوجتك؟


كان بحاجة لـ (كيفياليبانماياسوش) لأنها تقوده في ظلمات ذلك العالم كما فعلت بياتريس مع دانتي في رحلته للعالم الآخر، ثم إن لديه اليوم طفلاً جميلاً. وكانت (كيفياليبانماياسوش) تؤكد له أنه سيأتي يوم يجد نفسه فيها على كوكبه في ذات اللحظة التي فارقه فيها.. لكن هناك مشاكل معقدة.. هل يعود لنفس الزمن؟ هل يحتفظ بنفس الحجم الذي بدأ الرحلة به؟


كان الأمر شبيهًا بجليفر.. لربما وجد نفسه عملاقًا وسط أقزام ويقيدونه بالحبال لرمال الشط، أو يجد نفسه قزمًا ينام في قوقعة… يحتاج لما هو أكثر من الحظ كي يعود لنفس الحجم بالضبط. وماذا عن نفس الزمن؟ الأمر شبيه بقصص الخيال العلمي.. لربما يجد نفسه في عصر الحروب الصليبية أو عصر غزو المكسيك أو عصر الحرب العالمية الأولى ويختنق بالغاز.. كل شيء وارد.


كانت (كيفياليبانماياسوش) مهتمة بمعرفة كل شيء عن عالم عماد، ووجهت له الكثير من الأسئلة وقد أجاب عن كل سؤال، لكنه لم يظفر بالفهم في كل مرة. كانت هناك أشياء لا تفهمها ولا تتصورها. زور عالم مغلق متكامل لا ترى فيه السماء أو البحر، بالواقع هناك بحر وسماء داخل هذا التكوين العضوي الشبيه بالرحم؛ لهذا لم تتصور (كيفياليبانماياسوش) قط أن هناك من يركب طائرة يعبر بها الأجواء، كما أن أشياء مثل الرعد والبرق بدت لها غريبة تدل على التخلف.


ذات مرة فتحت الطاقة المطلة على الخارج، وسمع عماد في ذهنه جملة تتكرر:

- «العالم رقم 1865 – أ»


رأى (كيفياليبانماياسوش) تتجه للطاقة لتنطلق منها ثم دعته هو وأشرف – الذي تسميه (جراموسانتافونمك) – كي يتبعاها. في الخارج كان عالم حبييبي غريب كأن عاصفة رملية هبت هنا منذ وقت وجيز. وفي الخارج رأى كتلاً هلامية عملاقة بحجم الشاحنة تزحف.. ولاحظ أن لها أنوية ضخمة وأن المادة الهلامية رقراقة تتحرك حركة دوامية دائمة. بعض الكتل كان كرات عملاقة وبعضها كان أقرب لمستطيلات ضخمة.


ثم بدأ يفهم. سألها في ذعر:

- «هذه بكتيريا أليس كذلك؟»


- «نحن قضينا على هذه الكلمة لكني أعرف معناها من الكتب.. هذا صحيح»


- «معنى هذا أننا في حجم الفيروس!»


- «أعرف معنى هذه الكلمة كذلك»


كانت إحدى الكتل تدنو من الطاقة في خطى بطيئة لكنها واثقة، فقالت (كيفياليبانماياسوش) في ذهنه:

- «من الحكمة أن ندخل. هذه الكتل تبدو خطرة»


بالطبع.. من السهل أن تفترس خلية البكتيريا الفيروسات، دعك من أن حجم الفيروس هنا لابد أنه يماثل الطفل الصغير. ترى ما حجم البشر هنا؟ لابد أنهم عمالقة لدرجة عدم استيعابهم، ولربما كان أحد البشر هو الأرض التي يستقر فوقها عالم (زور).. كانت هناك قصة خيال علمي شهيرة لستانسلاف ليم، ينزل فيها رواد الفضاء فوق كوكب عملاق اسمه سولاريس، ثم يكتشفون أن الكوكب كائن حي.


هكذا انغلقت الطاقة من جديد.


كانت في كل يوم تجلسه أمام الشاشات وتعلمه أشياء عن زور، لكنها ظلت تجهل أمورًا كثيرة عن الأرض.. لماذا لا ينشغل أطفال أرضنا بتبادل الجينات البيولوجية؟ يمكنك نقل خبرات كاملة عن طريق نقل الجينات لطفل فيصير مهندسًا أو عالمًا..


قال لها عماد:

- «الأطفال لابد أن يلعبوا ويقضوا وقتهم في الرسم ومحاولة تعلم حروف الكتابة»


لم تفهم ما معنى الرسم، ولم يجد قلمًا أو ورقة يشرح لها فيها معنى الرسم..


قالت له وهي تنظر للشاشة:

- «هذا العالم يدعى 1917 – ب. أعتقد أنه رحب ودود.. يمكننا أن ننزل ونرى»


انفتحت الكوة.. أنت تعرف أنه لا بد من تصريح من ألتيما العظيم يسمح لك بالخروج، وقد قال ألتيما إنه لا يعرف الكثير عن هذا العالم لكنه لا يمانع، وفي الخارج رأى عماد ما يبدو كأنه صحراء ممتدة..


قال لها في ذهنه:

- «هل تعرفين حجمنا هنا؟»


- «لابد من حيوان أو حشرة نقارن نفسنا بها.. لربما كنا عمالقة في حجم جبل، ولربما كنا في حجم الذرات»


خرج يمشي فوق الرمال اللينة.. لا بأس.. الهواء نقي والأرض ثابتة..

وجد صخرة على الأرض، فأمسك بها وركع على ركبته.. بدأ يخط على التربة أشكالاً..

- «هل هذا هو الرسم؟»

ابتسم وواصل العمل دون أن يقول شيئًا..


رسم عنكبوتًا لا بأس به.. ثم رسم نسرًا يفرد جناحيه… لم تكن رسومًا رائعة لكنها ترمز للشيء بشكل ذكي.. ثم أنه خط خطوطًا تمثل قردًا.. تمثل عقربًا..

- «هل هذه مخلوقات من عالمك؟»

- «نعم.. ومن الغريب أنه لا يوجد عالم حيواني عندكم في زور»


هلل الطفل وقد راقت له هذه اللعبة فبحث عن صخرة أخرى وراح يحاول تقليد أبيه في الرسم.. وشعر عماد برضا. لديه ما يعلمه لهؤلاء القوم، فهم مثلاً لم يسمعوا قط عن نشاط اسمه الرسم.


لكن (كيفياليبانماياسوش) كانت محبطة. قالت بلا مبالاة:

- «ما جدوى هذا النشاط؟ محاولة أن تقلد الواقع. الصور الإشعاعية بيتا جاما تفعل هذا بشكل أفضل»


لم يستطع أن يشرح لها.. هذه أشياء لا تُفسّر.. ما قيمة الفن أصلاً؟.. لا يمكن وصف الأمر في كلمات.. لو شرحت قيمة الرسم أو قيمة النحت أو قيمة الأدب، لما وجدت ما تقوله.


قال لها وهو ينهض من ركوعه:

- «هذا شيء غريزي في الناس.. منذ ملايين السنين كان رجل الكهف يرسم كل شيء على الجدران . كان يحكي بالرسوم قصة حياته كاملة»


-«لأنه لم يملك أشعة بيتا جاما.. أما اليوم فهذا تضييع للوقت»


هذه كانت المكافأة على ما بذله من جهد، وقد شعر بخجل من نفسه مع حنق شديد. تناول كف ابنه أشرف وعاد بلا كلمة واحدة إلى عالم زور.


مرت الأيام… هي تتعلم الكثير عن الأرض، وهو يتعلم الكثير عن زور، ويحاول في الوقت ذاته القيام بمهمة عسيرة؛ هي نقل بعض ثقافة الأرضيين لابنه أشرف. لكن الأمر عسير فعلاً. كيف تنقل له فكرة الوطن أو فكرة الدين؟ هؤلاء القوم لا دين لهم لكنهم يحترمون ألتيما جدًا.


جاءت اللحظة المثيرة، عندما كان جالسًا أمام الشاشة، فسمع الخاطرة تتردد في ذهنه:

- «نحن الآن في كوكب يبدو شبيهًا جدًا بالعالم الذي جئت منه!..»


هرع عماد إلى الشاشة ليرى ما يقوله ألتيما العظيم:

- «أزل الظلام يا زور»


فتزول الغيوم على الشاشة ويظهر ألتيما بوجهه المميز الأخضر، ويتكلم:

- «هذا هو العالم 1917 – ب… للمرة الأولى نقابله»


بدا الرقم مألوفًا بالنسبة لعماد، فتساءل ذهنيًا:

- «أنا متأكد أننا كنا في عالم بهذا الرقم من قبل»

- «زور لا يرتكب أخطاء»


لم يكن عماد من الذين ينسون الأرقام بسهولة، دعك من أن الرقم 1917 لا يمكن نسيانه.. في العام 1917 نشبت الثورة البلشفية في روسيا، وهو نفسه عام وعد بلفور المشئوم الذي أدى لابتلائنا بإسرائيل.. لا يمكن نسيان رقم 1917 أبدًا….


- «زور لا يرتكب أخطاء»


عاد عماد يتساءل:

- «هل هو يشبه العالم الذي جئت منه فعلاً؟»

- «يشبهه جدًا لكنه ليس هو.. يماثله تمامًا ومن الوارد أن تجد أنه يماثل نفس الزمن الذي جئت منه»

- «وما العالم الذي جئت منه أصلاً؟»

- «العالم 1917 - ج ..»


جاءت (كيفياليبانماياسوش) وقد بدا عليها الحزن، فاحتضنت عماد من الخلف كعادة أهل زور، واعتصرته بقوة وهمست في أذنه:

- «القرار قرارك.. يمكنك أن تتركنا وترحل أو تدخل الممر الأفعواني الذي يقودك للعالم 1917 – ب»


مها.. مها وأشرف.. بيتي.. سيارتي.. شوارع القاهرة المغبرة المزدحمة.. اللغة العربية.. دور السينما والمولات والمطاعم. السماء فوق رأسك بعيدًا عن هذا العالم العضوي اللين الشبيه بالرحم من الداخل.. لا شك أن الإغراء شديد.


ثمة احتمال قوي جدًا أن تجد نفسك في عالم يشبه عالمك.. يشبه أرضنا.. وهذا معناه أن تجد أناسًا آخرين ولربما تجد زوجتك مها أخرى وابنك أشرف آخر. فهل سيعرفانك؟ وماذا لو قابلت أنت آخر؟


برغم هذا شعر بالحنين يعتصره..

رباه!.. كانت لحظات قاسية وهو يحتضن (كيفياليبانماياسوش) و(جراموسانتافونمك). لحسن الحظ أن هؤلاء القوم لا يبالغون في العواطف وإلا لرأينا مشهدًا هستيريًا…


اقتادته (كيفياليبانماياسوش) إلى ممر عضوي طويل.. ممر ينقبض وينفتح يذكرك بالحالب من الداخل.. الأرضية زلقة ولها رائحة عطرية غريبة.. لم ينظر للخلف ومشى نحو نهاية النفق المظلمة.. لا توحي أبدًا بوجود عالم خارجي. في الظلام الدامس خطا خطوة واحدة متأهبًا لأن يسقط في هاوية بلا قرار…


فجأة شعر بأنه يدخل دوامة رهيبة….

إنه في الطائرة!… الطائرة المصرية التي بدأ بها مغامرته.. والأغرب أنه يلبس كامل ثيابه والخوذة.. برج المراقبة يواصل تحذيره من العاصفة الرعدية!!

استعاد السيطرة على الطائرة التي تنحدر بسرعة جهنمية، ثم دار متجهًا نحو القاعدة الجوية.


كان يفكر في عمق.. هذه هي اللحظة فعلاً.. هذا هو العالم كما تركه بالضبط، لكنه لن يطمئن حتى يرى وجوه رفاقه في القاعدة.. يرى القاعدة نفسها..

عندما هبطت الطائرة أخيرًا والمظلة خلفها، رأى الفنيين يقفون.. وهرع واحد منهم نحو الطائرة لدى توقفها. انفتحت قمرة القيادة فرأى وجوه زكي ونبيل وعلاء.. كلهم هنا…


- «كنا قلقين عليك… العاصفة الرعدية كانت مخيفة!»


هكذا هو أمضى لحظة واحدة بمقاييس أرضنا.. لحظة واحدة لكنها تماثل عدة أشهر في زور.. ألعاب النسبية التي لم يفهمها قط…


المهم هنا أن هذه هي أرضنا فعلاً.. لا تشبهها بل هي. حتى أنه فكر في قلق أن تكون كل هذه المغامرة هلوسة شعر بها نتيجة نقص الأكسجين.


العالم 1917 – ب… لقد رآه مرتين.. جاء منه وعاد له، ومعنى هذا أن ألتيما العظيم قد أخطأ.. لا شك في هذا.. قد يكون هذا هو العالم 1917 – أ أو 1917 – ب أو 1917 – ج .. المهم أن ألتيما ظن أنهم لم يروا هذا العالم قط….


لم يكن قد اختفى بتاتًا بالنسبة للآخرين، وحتى عندما عاد لداره واحتضن مها وأشرف في نهم كأنه يحشرهما في صدره، لم تفهم زوجته سبب كل هذه العاطفة:

- «تتصرف كأنك كنت في عالم آخر وعدت منه»


لا تعرف كم هي صائبة…


***************


في أمسية هادئة جلس يشاهد إحدى القنوات التثقيفية وهو يرشف الشاي بعد العشاء..


وكانت القناة تحكي عن عالم ياباني…


هذا العالم الياباني يدعى ماساتو ساكاي، وقد كون فريق بحث مهمًا لاستكشاف ظاهرة غريبة في بيرو.. جنوبي ليما. الظاهرة موجودة في صحراء نازكا عند جبال الإنديز.


انتقلت الكاميرا لترينا رسومًا عجيبة التقطت من طائرة..

هذه الرسوم العملاقة يصل طول بعضها لـ200 متر.. رسمت بلون أبيض على أرض رمادية. بعض الرسوم يمثل قردًا وبعضها يمثل طائر الطنان أو نسر الكوندور الذي اشتهرت به بيرو أو عناكب..


خطوط نازكا.. الأثر الجيولوجي المهم الذي ضمته اليونسكو..


من رسم خطوط نازكا؟ ما القدرة السحرية لدى الإنسان القديم منذ 2000 سنة التي جعلته يرسم على هذه المساحات الشاسعة؟… هذه رسوم لا يمكن فهمها إلا من طائرة.. فكيف يمكن رسمها؟


قال العالم الياباني إنه من الواضح أن من رسم نازكا رسم نماذج صغيرة ثم قام بتكبيرها بطريقة المربعات.. هذا طقس ديني يطلب الخصوبة للأرض…..


سقط كوب الشاي من يد عماد..

يعرف جيدًا هذه الرسوم… يعرف اليد التي رسمتها.. لكنه لم يكن قد رآها في بيرو من قبل. لم ير هذا الفيلم من قبل.


«وجد صخرة على الأرض، فأمسك بها وركع على ركبته.. بدأ يخط على التربة أشكالاً..

هل هذا هو الرسم؟

ابتسم وواصل العمل دون أن يقول شيئًا..

رسم عنكبوتًا لا بأس به.. ثم رسم نسرًا يفرد جناحيه… لم تكن رسومًا رائعة لكنها ترمز للشيء بشكل ذكي.. ثم أنه خط خطوطًا تمثل قردًا.. تمثل عقربًا..

هلل الطفل وقد راقت له هذه اللعبة فبحث عن صخرة أخرى وراح يحاول تقليد أبيه في الرسم.. وشعر عماد برضا. لديه ما يعلمه لهؤلاء القوم، فهم مثلاً لم يسمعوا قط عن نشاط اسمه الرسم».


إذن هو رحل من العالم 1917 – ب…. عاد له ذات مرة غير عالم بأنه فيه… ثم عاد له مرة أخيرة.. ثلاث مرات، لكن خطأ ألتيما جعل عمادًا غير قادر على الفهم..


عماد هو من رسم خطوط نازكا… (زور) نقله لكوكب الأرض منذ 2000 عام من تاريخنا هذا، وجعله عملاقًا بحيث صارت نقوش نازكا هائلة الحجم مجرد نقوش بحجر على الأرض..


كان عماد يعرف حدوده جيدًا.. لن يتكلم أبدًا… وإلا فالطريق إلى الفصل من عمله وإلى مستشفى المجانين ممهد. أنا من رسم خطوط نازكا منذ 2000 سنة يا بروفسور ماساتو ساكاي.. كنت في زور وهذا يفسر كل شيء.


جلس لساعات يرمق شاشة التلفزيون التي تعرض برامج وثائقية أخرى.. كان شاردًا…

(كيفياليبانماياسوش) و(جراموسانتافونمك).. هل يراهما ثانية…؟

هل يعود لزور مرة ثانية؟


الإجابة لا طبعًا.. هذه الصدف لا تتكرر.. ثمة احتمال واه أن تكون رحلته لزور كلها هلوسة بسبب نقص الأكسجين لحظة الدوامة الرعدية، لكنه يعرف في قرارة نفسه أن هذا كله قد حدث فعلاً…. لم تكن هلوسة….


أغلق جهاز التلفزيون ونهض لينام.


Comments

Popular posts from this blog

ماذا ينقص الخيال العلمي العربي ليصبح مرآة مستقبلية؟

ترجمة الفصل الثالث من رواية بوابة المالا نهاية ل مايك كاري