حكايات مومياء الثلوج .. قصة قصيرة ل أحمد خالد توفيق

حكايات مومياء الثلوج .. قصة قصيرة ل أحمد خالد توفيق


ألا تخشى اللعنة حقًا؟


هذا كلام فارغ يا صاحبي.. أنت تعرف أن هذا الكلام الفارغ يُقال عن كل المومياوات في التاريخ، منذ مومياوات الفراعنة حتى مومياوات الإنكا. التعامل مع الموتى يدعو للتطير في كل مكان وزمان.. إن اللعنات تولد طيلة الوقت. أليس كذلك يا مصطفى؟ كم من كلام قيل عندكم في مصر حول هذا الموضوع !

لا توجد لعنة.


عليك أن تصدق هذا وتتصرف على أساسه..


هذا الرجل جِدّي.. أعرف هذا يقينًا، وأعرف أن دمه هو دمي.. ليس هذا فحسب، بل هناك كثيرون في الإقليم يمكن أن أؤكد لك أنهم يمتون له بصلة قربى. لقد قمت بعمل تحليل DNA مرارًا.. أنا طبيب وأعرف ما أقول، ولا شك أن هناك تطابقًا جينيًا بنسبة 80%.


هذا الرجل جدي.. وهذه المومياء ملكي.. وجدي لن يؤذيني..


***************


كانوا يتكلمون همسًا وهم يمشون وسط ردهات المتحف الصامت شبه المظلم.. لم يكن هذا أنسب وقت للمناقشة، لكنهم في الواقع كانوا يحاولون تبديد توترهم..


باولو قد عطل الكاميرات وجهاز الإنذار، فهو يعرف ما يفعله جيدًا، بينما مصطفى قد قام بتخدير الحراس.. سوف يكون الأمر سهلًا.


والآن أنا مدين لك ببعض أشياء.. أولًا يجب أن أخبرك أننا في ردهة متحف جنوب التيرول في بولتسانو، بإيطاليا.. الإيطاليون يسمون الإقليم (آلتو أديجي) ويقع في شمال إيطاليا. النمسا قريبة جدًا بالمناسبة. ومن الغريب أن معظم السكان في جنوب التيرول يتكلمون الألمانية، لكن الإيطالية هي لغة بولتسانو..


ثانيًا يجب أن أخبرك أن هؤلاء هم شاب مصري قوي البنية له شعر مجعد طويل يتدلى على كتفيه، ولا يكف لحظة عن إزاحته عن وجهه بيده ذات القفاز. الرجل الثاني له ملامح دقيقة هشة كأنه دمية صغيرة الحجم، ورأسه أصلع وله عينان زرقاوان واسعتان. اسمه د. (باولو).. طبيب إيطالي. الثالث مهندس إلكترونيات إيطالي نحيل جدًا وطويل جدًا، حتى كأنه أول قلم رصاص حي في التاريخ.. هذا هو (لورنزو)..


إيطاليان ومصري يزحفون في هذا المتحف في ساعة متأخرة من الليل، أو للدقة الجغرافية نحن في الساعات الأولى من الصباح.


ليست الحراسة بهذا التعقيد، فنحن لا نحرس مجوهرات تاج أو حلي ملكة أو قناع توت عنخ آمون.. نحن نتكلم عن بعض المومياوات الموضوعة وراء حواجز زجاجية، ولا أحد يسرق المومياوات على قدر علمي إلا إذا كان عالم آثار يفهم عمله. نحن نتكلم إذن عن سرقة علمية شديدة التحذلق..


سرقة علمية.. أو سرقة طقسية..


يمكنك أن ترى الواجهة الزجاجية المضاءة بأنوار ساطعة، وهناك مقياس رطوبة ومحرار.. وفي وسط القفص الزجاجي ترقد المومياء. هي مومياء تشبه أي مومياء أخرى.. نفس العيوب والمزايا.. نفس العينين الفارغتين والأنف المتآكل.. لو وضعوا لافتة تقول إنها مومياء بعنخي أو سنوسرت الأول لما بدا الأمر غريبًا، لكننا هنا نرى الاسم بوضوح:


أوتسي…  رجل الثلج التيرولي


عالج لورنزو بعض الدوائر الكهربية، وبعد خمس دقائق انفتح الغطاء الزجاجي…


- «سوف يكون الأمر صعبًا.. يجب ألا تتفتت هذه المومياء»


المشكلة أنها لم تكن مومياء. كانت هشة جدًا ونوع التحنيط الوحيد هنا هو الثلج الذي تعرضت له على مدى آلاف السنين. من السهل أن تتحول إلى مسحوق بسهولة.


بسرعة وبدقة، أخرج المصري كيسًا من البلاستيك مما تنقل به الجثث، وقاموا بحذر وبأيدٍ تكسوها القفازات بوضع الجسد المتخشب داخل الكيس، ثم حمله الفتى المصري على كتفه.. لم يكن الأمر صعبًا فالجسد ضامر خفيف الوزن كأنه طفل في السابعة..


- «هيا بنا….»


قالها الدكتور لاهثًا بينما هم يندفعون جريًا نحو باب الخروج. لا بد من كاميرا منسية سوف تلتقط صورة لهم، لا بد من حزمة أشعة تحت الحمراء يقطعونها فتدق جرس إنذار في مكان ما.. إنها مخاطرة كبرى بلا شك.


العامل الوحيد الذي يمنحهم بعض الاطمئنان، هو أن هذا كنز علمي وليس كنزًا ماديًا.. لهذا ستكون سرقته أسهل نوعًا..


في الخارج كانت السيارة (الفان) تقف في الظلام ومحركاتها دائرة بينما الشارع خال تمامًا. خرج لهم (داريو) السائق وفتح لهم الباب الخلفي، وسرعان ما ألقوا بالجثة داخلها. ثم أمره الدكتور اللاهث بأن ينطلقوا..


لا تنسَ أن لورنزو وداريو يحملان نفس الجينات مثل المومياء. أما الفتى المصري فهو يدرس علم ترميم الآثار في إيطاليا منذ خمسة أعوام،  ولديه خبرة لا بأس بها بالمومياوات…


بعد رحلة استمرت ساعتين أو أكثر، كانت السيارة قد غادرت بولتسانو ودخلت شاتو شيليار.


هناك عند ذلك الكوخ الجبلي توقفت السيارة وترجل الراكبون، ثم حملوا المومياء إلى داخل الكوخ..


- «لا تضعوه قرب المدفأة حتى لا يتلف»


قالها لورنزو.. هذه المومياء تعتمد بقوة على البرد الذي وجدت فيه منذ القدم، ولا شك أن الجو غير صحي على الإطلاق. هناك قفص زجاجي آخر تم التحكم في درجة حرارته ورطوبته، وضعوا فيه المومياء ثم أغلقوا الغطاء.


كان د. باولو يشعر براحة أكيدة.  لقد نجح في أن ينقذ جده.. جده الذي يُعامل كأنه حيوان في حديقة الحيوان، يأتي العالم كله ليراه ويلتقط له الصور. لقد حق لهذا الجد أن ينعم بنوم طويل مريح.. لا ينتهك خلوته أحد..


كان الدفن واردًا بالطبع، لكن من المجنون الذي يحرم البشرية من أثر عظيم كهذا؟ السياسة المثلى هي أن تحتفظ به في ظروف مناسبة لكن امنعهم من إهانته.


تساءل مصطفى وهو ينظر للمومياء الراقدة:

- «ماذا تنتويه بعد ذلك؟»


قال الدكتور الإيطالي وهو يشعل غليونًا لأول مرة منذ أربع ساعات، لذا سحب الدخان  في جشع:

- «سوف أدعو بعض الشخصيات المهمة من الذين يحملون نفس الجينات ليزوروا جدهم.. النمساويون يعتقدون أنه أقرب لهم، بينما أنا أعتبره مواطنًا إيطاليًا»


ثم نظر لمصطفى وسط سحابة الدخان الكثيف:

- «هل تقبل من يقول لك إن رمسيس الثاني لم يكن مصريًا على الإطلاق؟»


- «سوف أفجر رأس من يزعم هذا»


- «نحن لن نفعل هذا بالضبط.. سوف نفعله بشكل أكثر رقيًا. لقد أخذنا المومياء لنا.. لن يجدوها أبدًا»


***************


دعنا من هذا السخف إذن..


أنت تعرف كما أعرف أن هذه المومياء ستعود للحياة. من الغباء أن أفترض أنك لم تخمن ذلك. القصة دائمًا هكذا ربما منذ عصر (جوهرة النجوم السبعة) لستوكر.. لا يمكن الكتابة عن مومياء دون أن تعود للحياة. لا بد أن المومياء التي لا تفعل هذا سيئة الأخلاق..


ليس هذا هو المهم.. المهم كيف سيحدث هذا؟ والأهم هو مصير ذلك الشاب المصري.. وماذا عن كلارا الحسناء؟


لا يعرف الوقت..


فقط كانت الشمس تنحدر نحو الغرب، وقد بدأ اللون الأرجواني الممزوج بالأزرق  يلطخ كل شيء.


كان يحمل البلطة النحاسية ويتلفت حوله في رعب. ما اسمه؟ لا اسم له.. إنه هو. هذا زمن تعرف فيه الشخص برائحته وشكله وصوت زئيره، لكننا للتسهيل نطلق عليه اسم أوتسي..


لا بد أنك خمنت أننا قد عدنا بآلة الزمن الخيالية 5500 عام في الماضي.. هناك خمسة وخمسون قرنًا تفصلنا عن هذه اللحظة.


بالتأكيد لم تكن صحة أوتسي على ما يرام. مفاصله متآكلة تمامًا من النقرس والروماتزم.. ولديه أكثر من حصوة في المرارة.. أما أمعاؤه فمليئة بالديدان وأسنانه تالفة.. ويبدو أنه كان يعاني تسممًا مزمنًا بالزرنيخ والنحاس. هذا بالطبع يقضي على أسطورة الرجل القديم المتمتع بصحة رائعة.. هذا رجل سقيم..


البرد جعل جلد وجهه مشققًا كأنه مدبوغ.. لو ضحك – وهذا مستحيل – لسمعت صوت تمزق الأنسجة..


هناك يمشي والبخار يتصاعد من فمه. يمكنك أن ترى الوشم الذي رسمه على عنقه. لو نزعت ثيابه لأدركت أنه موشوم أكثر من أي مطرب راب معاصر. كانوا يصنعون الوشم بإحداث شقوق ثم حشوها بالفحم. يبدو أن هذا أقدم وشم في التاريخ، ويرى بعض العلماء أن هذا كذلك أقدم علاج بالإبر الصينية في التاريخ!


شعر بجوع شديد.. لقد بدأ يهضم ما تبقى من لحم التيس الذي اصطاده منذ يومين..


هناك بعض النباتات النامية التي بدأت تظهر من بين الثلوج الذائبة. لقد اقترب الربيع، لكنه بالطبع لم يكن يملك أي نوايا شاعرية.. اتجه للنبات وراح يبحث عن غايته بين الأزهار. فيما بعد سوف يستطيع العلماء تمييز كل حبة لقاح في معدته، ولسوف يرسمون رحلته بالضبط عبر ثلوج التيرول..


كان يعرف أنهم يطاردونه. لا يعرف لهم أسماء لكنهم الأعداء..


يجب أن يتحاشاهم بأي طريقة..


كان لا يخاف المرتفعات، فهو قد قضى أعوامه الخمسة والأربعين بينها يرعى الماشية، وكانت رئته بحالة ممتازة، لكن من الواضح أنهم يجيدون تسلق المرتفعات مثله..


يمكنك أن ترى ثيابه المعقدة المناسبة للبرد.. كلها مصنوعة من جلد وفراء الحيوانات.. ومن الطريف أن تلاحظ أنه صمم حذاء يصلح للمشي فوق الثلوج. الحاجة أمّ الاختراع فعلًا. هناك جيب يضع فيه إزميلًا ومطرقة..


على ظهره جعبة فيها عدة أسهم وقوس..


يعرف أنه وحيد، لكن لربما استطاع ببعض التحايل أن يخدعهم أو يهرب منهم…. شعر بالعصارة الحمضية تتجمع في صدره.. ما كان يجب أن يأكل لحم التيس بعد ما بدأ يتلف، لكنه كان بحاجة للطاقة..


والحقيقة أن هذه الوجبة لن تُهضم أبدًا.. حتى بعد 5500 عام..


***************


عندما انتهى مصطفى من إنهاء إجراءات الحصول على الجنسية، كان قد قرر ألا يعود إلى مصر أبدًا بعدما انقطعت علاقاته هناك كلها. الأب والأم توفيا.. الأخوات تزوجن ولا يبالين به.. حبيبته تزوجت.. لم يعد هناك مايربطه بمصر سوى النيل والهرم وطبق الفول.. سوف يحاول أن يجد بديلًا في إيطاليا ويحاول أن يحب البيتزا والباستا، وبالتأكيد سوف يجد حبيبة في مكان ما.


كان قد درس ترميم المومياوات، لكنه تحاشى أكثر من مرة أن يعود لمصر. على الأقل في الفترة التالية. يعرف أن مصر نداهة سوف تناديه لأحضانها مهما ابتعد.. هو فقط غير مهيأ لهذا العناق بعد.


كان يعاني الفاقة.. دخله يكفي بالضبط للطعام والمسكن.. وكان يقيم مع طالبة إيطالية حسناء اسمها كلارا. كانت كلارا تحبه حقًا لكنها ترفض مبدأ الزواج تمامًا.


عندما قابل د. باولو في الجامعة، قدر أنه على شيء من الجنون. لكن الجنون معدٍ، وقد سمع من الرجل كلامًا كثيرًا مبهرًا عن مومياء أوتسي.. بالواقع لم يكن الرجل يفكر إلا في أوتسي..


ولما زار مصطفى المتحف في بولتسانو رأى المومياء، فلم تبد له مبهرة جدًا.. لا يمكن أن ينبهر المصري بمومياء أبدًا بعد كل ما رآه، لكنه عرف أن العلماء قد فحصوا كل شعرة في رأس هذا الرجل البائس.. أجروا مئات فحوص الأشعة ومئات تحاليل الحمض النووي.. لا بد أنهم يعرفون شكل حبيبته لو كانت له حبيبة..


هنا توقف د. باولو أمام صورة عملاقة في ركن القاعة..


رأى مصطفى رجل كهف مدثرًا بالفراء، له شعر طويل ولحية، يحمل فأسًا ومدية.. قال له د. باولو إن هذه صورة خلقها الكمبيوتر لأوتسي. هناك علم كامل في الطب الشرعي يقوم على إعادة تشكيل وجوه الجماجم ومعرفة كيف يبدو أصحابها. لاحظ أن باولو ينظر له وللصورة ويبتسم.. هنا فهم سبب اختياره هو بالذات..


مصطفى يحمل نفس ملامح أوتسي.. لو أنه أطال لحيته طبعًا..


همس مصطفى في حنق:

- «لا تقل إنني أحمل جينات هذا الشخص..»


كان يعرف أن التيرول يعج بجينات أوتسي.. هناك أقارب وأحفاد كثيرون له هنا.


قال د. باولو وهو يضع إصبعه أمام فمه بمعنى (خفض صوتك):

- «لم أقل هذا.. لكنني أتحدث عن روح تناسخت في شكلين..»


- «تناسخ الأرواح كلام فارغ.. أنا أؤمن بهذا..»


- «وأنا أؤمن بالتناسخ»


كانت هذه محاورة عابرة وانتهت، لكن ما حدث بعد هذا هو أن مصطفى تلقى عرضًا مغريًا جدًا كي يتعاون مع الدكتور في سرقة المومياء. كان الأمر أقوى من أن يُرفض، ثم أن الأمر يقع ضمن نطاق اهتمامه على كل حال.. نحن نتكلم عن المومياوات..


***************


في العام 1991..


على الحدود النمساوية الإيطالية يقف الزوجان هلموت وإيريكا فوق هذا المرتفع.


كانا ينظران في دهشة وذهول إلى الجثة التي وجداها في ممر تيسنيوخ.. كثير من المتسلقين سقطوا هنا ولقوا حتفهم،  وقد خطر لهما أنها جثة سقطت قريبًا..


كانت المرأة ترتجف من الرعب وهتفت:

- «هذا شنيع!!»


قال هيلموت وهو يحتضنها بقوة:

- «سوف نعود ونجلب بعض الرجال غدًا»


كانت عملية تخليص الجثة المتجمدة من تحت الثلوج عسيرة جدًا. ومنذ اللحظة الأولى أدرك من استخرجوا الجثة أنها قديمة جدًا، وقدر عالم حفريات أنها تعود لأربعة آلاف عام..


حدث خلاف على تقسيم الحدود..


في النهاية جاء قرار التحكيم بأن أوتسي ينتمي لإيطاليا وليس النمسا. وذهب أوتسي إلى متحف جنوب التيرول..


من الغريب كذلك أنهم وجدوا حجرًا تم استخدامه في كنيسة قريبة، وهذا الحجر يعود لذات حقبة أوتسي.. على الحجر ترى صورة لا بأس بها لرجل يتلقى سهمًا في صدره. نفس موضع إصابة أوتسي. من هو أوتسي؟ وما أهميته لدرجة أن يصنعوا له نقشًا على حجر؟


أوتسي يرقد على بطنه فوق صخرة ويراقب الأفق.. البخار يتصاعد من فمه كأنه سحابة صغيرة، حتى شعر بأن هذه السحابة سوف تفضح أمره..


تحسس البلطة وتحسس قراب السهام..


لا شك في أنه قادر على إلحاق ضرر بالغ بهم. سوف يهشم صدر ورأس أربعة منهم، لكن النهاية قريبة على كل حال. لا مفر سوى المراوغة..


أخيرًا استطاع أن يراهم. كانوا هناك.. عددهم لا يقل عن عشرة، وهم يتسلقون الصخور في حركة أقرب للتمشيط.. وأدرك أنهم يحملون جثة. لا يمكن قول إنها جثة صديقه. لا توجد صداقات في زمن كهذا، لكن يمكن أن نعتبره (حليفه).. يصطاد معه ويستطيع أن يغمض عينيه عنه. الآن يمكنه أن يرى جثة هذا الحليف يحملونها والرأس يتدلى ويتأرجح مع كل هبوط أو صعود.


لماذا يحملون الجثة؟  أنت تعرف أنهم لم يكونوا أكلة لحوم بشر. لكن أوتسي كان يعرف سبب الاحتفاظ بالجثة. سوف يتركونها فوق صخرة شامخة كي تلتهمها الأرواح. عقيدة عبادة الأرواح راسخة لدى البشرية منذ زمن سحيق.


يمكن أن يطلق سهامه الآن.. لكن لن يطول الأمر حتى يصل له الباقون..


فليبق ساكنًا…


لكن الخطط من هذا الطراز تكون هشة جدًا. هذا الماعز الجبلي اللعين كثيف الفراء وثب من جواره، وبما أن الجليد لم يذب بعد، فقد انزلق حافره.. تمالك نفسه بصعوبة، لكن قطعة ثلجية عملاقة انحدرت من أعلى محدثة دويًا وتناثرت..


رفعوا رءوسهم.. وأدرك أوتسي أنهم رأوه.. تصاعدت صيحات النصر.


لم يعد هناك داعٍ للتخفي.. إنه في مكان عالٍ ويمكن أن يؤذيهم بقسوة قبل أن يموت. جرد سهامه وأطلق على الرجال ثلاثة أسهم.. وسرعان ما رأى رجلين ممددين على الصخور يحاول كل منهما أن يخرج السهم من صدره.. ثم همد أحدهما..


انطلق يصعد لمستوى أعلى وهو يلهث من البرد والانفعال…


هنا فوجئ بواحد منهم يعترض طريقه وهو يزأر بوحشية ويلوح برمح.. لحيته منتفشة وعيناه من نار واللعاب يسيل من شدقيه كالضباع. وأدرك أنه جاء من طريق مختصر بين الصخور ليهاجمه من الخلف.


لم ينتظر.. طوح بالبلطة فشج رأس المهاجم إلى نصفين.. بعد 5500 عام سوف يندهش العلماء لأن هناك أكثر من نوع من الدماء على البلطة وعلى ثياب أوتسي. ثم يقررون أن السبب هو أنه قتل كثيرين قبل موته.


طار سهم من مكان ما فانغرس في صدره..


لا جدوى من الهرب، سينتهي كل شيء حالًا، والمهم أن ينتهي بسرعة..


عندما استدار للخلف كان أول ما رآه البلطة العملاقة المتجهة نحو جمجمته…


***************


على مائدة العشاء سال الكثير من الخمر، والتهم الرجال أطنانًا من المكرونة. هناك نوع من النبيذ العجيب يقف بالضبط بين النبيذ والجعة، وهو يشي بالامتزاج بين الثقافة النمساوية والإيطالية التي تميز هذا المكان من التيرول، وكان مصطفى يفضله بشكل خاص، أما الرجال فتناولوا النبيذ العادي. كان البرد شديدًا وهم جياع لذا التهموا الكثير..


د. باولو كان مرحًا وقد بدا أن خطف المومياء قد سره جدًا. هذا حلم ليس هينًا.. منذ رآها للمرة الأولى حلم بأن تكون له..


تساءل مصطفى بلسان ملتو وهو يشرب كأسًا رابعة:

- «كم من الوقت تعتقد أنه سيمر قبل أن نجد رجال الشرطة فوق رءوسنا؟»


قال لورنزو بفم مليء بالطعام:

- «بفرض أن هناك كاميرا أفلتت منا ومن خبراتي الإلكترونية، فهم سيجدون صور أشخاص ولن يعرفوا من هم.. ليست لأحدنا سوابق أو صور، كما أننا لا نتمتع بالشهرة. سوف يذيعون صورتنا في التلفزيون وعلى شبكة الإنترنت لكن هذا سيعطينا وقتًا للتحرك. رأيي الخاص أن هذه عملية محكمة»


هكذا واصلوا الأكل في صمت..


قال مصطفى ورأسه يتأرجح وجفناه ثقيلان كأنهما من صخر:

- «أعتقد أن الأحداث كانت مرهقة.. أعتقد كذلك أنني أفرطت في الأكل.. أفتح عيني بصعوبة بالغة»


كان د . باولو يعرف أن السبب هو المخدر الذي دسه في النبيذ الذي يفضله مصطفى، لكنه واصل أداء دوره حتى النهاية وبدا كأنه موشك على النوم بدوره..


في النهاية وضع مصطفى رأسه على المنضدة، وراح يغط بصوت عال.. وغطى شعره الطويل وجهه. بدا هشًا مثيرًا للشفقة..


قال لورنزو وهو يلقي بالمنشفة:

- «انتهى الأمر..»


وقال السائق داريو:

- «سوف يتعبنا في حمله»


قال د. باولو وهو يملأ كأسًا أخرى:

- «لننتظر قليلًا.. ربع من يتم تخديرهم يستيقظون في اللحظة الأخيرة ليضربوك.. اجلسوا حتى نتأكد من أنه نام»


مرت عشر دقائق، ثم أن د. باولو أشار للرجال فحملوا مصطفى ثقيل الجثة..


خلال دقائق كان المشهد قد تغير تمامًا في الغرفة الداخلية. تم وضع منضدة تشبه مناضد الجراحة..  وتعاون الرجال على إرقاد مصطفى على المنضدة.. الآن يأتي لورنزو بجهاز معقد شبيه بأجهزة القلب الصناعي، ويتحرك على عجلات، فيوصل مجموعة من الأقطاب برأس مصطفى..


في الوقت نفسه فتح داريو وباولو القفص الزجاجي. أخرجا المومياء ووضعاها على الأرض، ثم تعاونا على توصيل مجموعة أقطاب برأسها المهشم…


بدا الأمر للحظة كأنه لقطة من فيلم فرانكنشتاين يونيفرسال، مع مؤثرات ستريكفادين الكهربية الشهيرة. بالفعل بدأ عداد الكهرباء يسجل استهلاكًا مخيفًا وبدأ المصباح يتراقص.


كان الرجال يعرفون ما يفعلون، فلم تكن هناك أسئلة.. لقد تم ترتيب هذا السيناريو مرارًا. دعني أشرح لك بعض النقاط: د. باولو يملك نظريات معينة مخبولة بصدد جده، وهي نظريات تخلط بين علم الفيزياء والميتافيزيقا. كان يؤمن بأن أوتسي قد وجد عبر العصور على عدة أشكال.. وكان يؤمن أن القدر قاده إلى مصطفى الذي يشبه أوتسي تمامًا. هذه رسالة تخبره أن التجربة قد آن أوانها..


قال للورنزو بصوت مرتجف:

- «تأكد من كل شيء… »


لو سارت الأمور على ما يرام، فلسوف ينتقل وعي مصطفى إلى أوتسي.. سوف تدب الحياة في المومياء وتنهض. في الوقت نفسه سوف تفرغ الحياة من مصطفى ولسوف يسقط ميتًا… ببساطة لأن المومياء لا تملك وعيًا..


ستكون هناك جثة، لكن في التيرول يمكنك التخلص من عشرين جثة لو أردت..


حبس أنفاسه، وهو يراقب سريان الموجات الكهرومغناطيسية التي يسجلها ألف عداد ومؤشر، ثم هتف بلهجة مسرحية:

- «الآن يا شباب.. سنغير التاريخ!»


وضغط على الزر الأزرق..


للحظة تألقت الغرفة بضوء أزرق غريب.. يشبه الأمر ذلك الضوء الذي يغمر الشارع كله عندما يكون هناك من يقوم بعملية اللحام. رائحة أوزون قوية لو كانت للأوزون رائحة..


كان التأثير الكهرومغناطيسي قويًا وشعر الرجال الثلاثة بأنهم في خلاط أسمنت.. طنين يصم آذانهم.. غثيان..


ثم بدأ دخان يغمر المكان..


هتف داريو وهو يقاوم حتى لا يفقد الوعي:

- ”هناك شيء خطأ… ثمة حريق في مكان ما..“


لكن لورنزو والدكتور كانا يتوقعان هذا.. المهم أن تنتهي هذه اللحظات سريعًا. للأسف لا  يمكن الضغط على زر لإنهائها. هذه دورة تستمر 80 ثانية ولا بد من استكمالها..


فجأة دوى الانفجار، وشعر ثلاثة الرجال بأنهم يُقذفون للخلف. كان داريو قد أوقد فرن الموقد ذات مرة بينما كان مليئًا بالغاز، فانفجر وطار هو ليرتطم بالجدار. لقد تكرر ذات الشعور من جديد.


كان هناك.. يتنفس بصعوبة وهو على الأرض. نهض وراح يتفقد الآخرين…


كان هناك خليط من الأجساد المكومة. الدكتور.. مصطفى.. لورنزو..  استطاع أن يدرك أنهم يتنفسون..


الدخان يتصاعد من الجهاز..


راح يصفع خدي الدكتور حتى يفيق.. ثم بدأ يصفع لورنزو. من المؤكد أن مصطفى لم يمت.. صدره يعلو ويهبط بلا توقف…


فتح الدكتور عينيه بصعوبة وغمغم:

- ”لقد فشل كل شيء. فشل كل شيء“


ثم فتح عينيه عن آخرهما وهتف:

- ”أين أوتسي ؟“


بالفعل لا يوجد أثر للمومياء.. فقط تتدلى الأقطاب في الهواء وتتأرجح. لا يمكن أن تكون المومياء قد تفتتت لأن من تسقط فوقه قنبلة ذرية يترك بعض الفتات. هنا لم تعد هناك مومياء أصلاً..


- ”الغليون!… أين الغليون؟!“


غريب أن يكون الغليون أول ما خطر له.. لكن غرابة الأطوار مقبولة لدى العائدين من انفجار كهذا. نهض لورنزو بدوره وراح يتفحص أطرافه الطويلة.. من الواضح أنه سليم. على الأقل ما زالت أطرافه موجودة..


هتف لورنزو متحسسًا رأسه:

- ”المومياء!… هناك من سرقها!“


- ”كف عن هذا الكلام الفارغ! نحن لم نغب عن الوعي أكثر من دقائق..“


- ”إذن؟؟“


قال د. باولو وهو يحشو الغليون الذي وجده:

- ”الاحتمال الوحيد بالنسبة لي هو أن الطاقة قد بخرت المومياء.. تلقت شحنة حرارية هائلة محتها من الوجود“


- ”رباه“


- ”وهذا معناه أننا فقدنأ أثرًا تاريخيًا لا يقدر بثمن.. لقد كانت مغامرة بائسة، وقد دفعنا نحن والعالم ثمنها غاليًا“


هنا راح مصطفى يئن، فألقى د. باولو نظرة كارهة عليه وقال:

- ”لم يحدث شيء لهذا اللعين.. حساباتي خاطئة!!“


تساءل داريو:

- ”وماذا نقول له عندما يفيق؟“


همس الدكتور حتى لا يسمعه مصطفى الذي يجيد الإيطالية تمامًا:

- ”الانفجار سوف يساعده على تصديق أي قصة.. سيحسب أن قطاعًا قد مُحي من ذاكرته مع الانفجار، ولسوف يكوّن ذاكرة زائفة عما حدث“


***************


رأى مصطفى البلطة الهائلة تتجه نحوه فارتمى فوق الثلوج..


لم تصبه البلطة.. كان يشعر بالسهم يبرز من صدره، وقدر أنه لم يؤذه جدًا. مد يده وبقوة انتزع السهم فانبثق خيط من دم وراءه..


أين أنا؟ ماذا أتى بي هنا؟ هذا البرد الشديد.. لماذا أرتدي هذا الفراء؟


من اين جاءت هذه الثلوج الكثيفة؟ من هؤلاء المهاجمون؟


على كل حال رأى رجلين يهرعان نحوه، وكان على حافة جرف زلق. عرف أن أي حركة ستلقي به من عل، لا يستطيع عمل شيء. الأقدار تدخلت في اللحظة المناسبة، فقد انهارت الأرض تحت أقدام الرجلين، فصرخا وتناثر الجليد الناعم..


رأى عددًا من السهام تنطلق نحوه فركع على الأرض…


ماذا حدث؟ كان يشرب النبيذ مع البروفسور في الكوخ الدافئ،  ثم حدث شيء ما.. هذا كابوس…


صاح بأعلى صوته بالإيطالية:

- ”ماذا تريدون مني؟“


فجاءته الإجابة أقرب للزئير.. هونجا هونجا.. مووووووووه!….


هؤلاء نوع من الوحوش.. لا شك في ذلك..


كانوا قادمين من أسفل الجرف وهم يعوون ويزأرون ملوحين ببلطات نحاسية ملفوفة بجلود الحيوان.   أدرك أن قطعة الجليد التي يقف خلفها قابلة لأن تتفكك.. ركع وهوى عليها بضربات متسارعة بالبلطة. ركلها بقدمه.. تدحرجت لأسفل ككرة ثقيلة راحت تزداد حجمًا وسرعة وهي تندفع..


عندما بلغت المهاجمين كانت سلاح قتل.. أسقطت اثنين في الثلج وبعثرت اثنين ولعلها مرت فوق واحد.


صرخ بأعلى صوته:

- ”أنتم تتلقون العقاب!“


أسند ظهره للجدار وراح يحاول تهدئة ضربات قلبه الموشك على الانفجار.. اهدأ.. اهدأ.. من الواضح أنهم أغبياء.. شرسون لكنهم أغبياء. أنت تملك الذكاء وبالتأكيد سوف تتمكن من قهرهم..


راح يتأمل الوشم الغريب على ذراعيه.. ثم راح يهرش شعره المنكوش.. التقط قملتين من شعره تفحصهما في هلع، وشعر بأن هناك بركان نار في معدته..


أين رأى هذا الوشم من قبل؟


ثم  ارتجف هلعًا.. كان هذا منذ ساعات..


المومياء !!!


***************


- ”هل ترغب في الرحيل يا مصطفى؟ سنعيدك إلى بولتسانو“


- ”هل أنت بخير؟“


- ”أنت بحاجة لنوم عميق“


قال د. باولو:

- ”إنه في حالة صدمة عصبية.. أرى أن نعيده لمسكنه حالًا.. كلارا صديقته تعرف كيف تعنى به.. لا.. لا أطباء“


لم يتكلم مصطفى.. بينما شعره الطويل يغطي وجهه وهو يستند إلى داريو ولورنزو.. أطلق صوتًا غريبًا من بين شفتيه وزاغت عيناه.. بدا كمن يحملونهم للشنق عندما تتخلى أقدامهم عنهم..


في توتر سانده الرجلان متجهين إلى خارج الكوخ.. لحق بهما د. باولو وهو يرمق الكوخ في حسرة..


جلس في السيارة الڤان جوار السائق داريو، بينما جلس لورنزو جوار مصطفى في الجزء الخلفي.. دار المحرك وانطلقت السيارة وسط طريق الجبال، بينما بدأ الأفق يتلون.. إن الفجر قادم بعد ليلة عصيبة طويلة.


كان باولو شارد الذهن… يدخن الغليون محاولًا فهم لماذا فشل..


أنت تعرف طبعًا أن وعي مصطفى انتقل ليسكن جسد أوتسي.. بينما وعي أوتسي قد صار في جسد مصطفى، لكن هؤلاء الحمقى لا يعرفون ذلك..


إنهم سذج.. أليس كذلك؟


في الشارع الهادئ الخالي الذي بدأ ضوء النهار النضر يكسوه، لكن الناس لم تصح من نومها بعد. يترنح ستافرو ممسكًا بزجاجة الخمر التي لم يبق منها سوى قطرات. يتمسك بعمود نور وهو يتساءل عن سبب تحول قدميه إلى مكرونة مسلوقة. يرى العالم في غشاوة ولكم تمنى لو رأى الأفيال الوردية التي يقولون إن السكارى يرونها. لكنه لم ير فيلاً ورديًا………………


رأى السيارة الڤان الواقفة..


ترتج .. شيء يرتطم بها من الداخل كأنها تقل فيلاً هائجًا. هل هذا صوت صراخ؟


«عندما يحملك أحدهم من قفاك ليضرب برأسك سقف السيارة، فإنك لا تدري هل تختنق أم تموت من إصابة الرأس».


ثم رأى رجلين يترجلان.. أحدهما صغير الحجم والآخر قوي، وهما يهرعان إلى الجزء الخلفي من السيارة.. يفتحان الباب..


جو عام من الانزعاج والذعر.. يقفزان للداخل..


«الأسنان التي تطبق على الحنجرة ليست أروع شيء في العالم.. صدقني».


صرخة مكتومة، ورأى دمًا ينتثر على زجاج العربة، ثم صرخة مكتومة أخرى.. هذه المرة سقط رجل من الباب المفتوح.. وخيل للسكير أن الرجل بلا صدر.. أو أن هناك ثقبًا هائلاً في منتصف صدره..


من الباب الخلفي للسيارة وثب رجل ضخم له شعر طويل يتدلى على كتفيه.. كان وجهه ملوثًا بالدم، كأنه أسد فرغ من التهام وعل.. نظر حوله في توحش.. ثم داس جثة الرجل الملقى على الأرض الذي لم يعد لديه صدر…


تلفت العملاق حوله، ثم مشى نحو بناية قريبة…


نظر ستافرو إلى الزجاجة، وقدّر أنه شرب أكثر مما ينبغي.. هذا الذي يراه لا يمكن أن يكون حقيقيًا. على الأرجح هي أفيال وردية من نوع جديد..


قال لنفسه:

- «هيك!.. الساحرة الشمطاء في بيتي معها حق. كان علي أن أنام في فراشي وأنعم بالدفء.. هيك!».


ثم طوح بالزجاجة في أقرب صندوق قمامة.. في الواقع لم يكن قد بقي فيها الكثير..


***************


كلارا هرعت لتفتح الباب لأن البوّابة نائمة على الأرجح.


هي بناية متواضعة من خمسة طوابق. لها ذات الطابع الأوروبي القديم المميز. كل شقة تتكون من غرفتين ومطبخ وحمام ضيق والمواسير عتيقة والجدران مشققة، وهناك جهاز تلفزيون ينتمي لعصر ما قبل جهاز التحكم عن بعد.


صديق لمصطفى اتصل بها فجرًا على هاتف مصطفى وقال إنهم سيحضرونه لأنه ليس على ما يرام. أصابها الهلع، وراحت تنتظر سماع سيارة في الشارع الهادئ.


كلارا فتاة إيطالية لديها سمات الجمال التي تحمل شيئًا يبهر كل واحد، وقد كانت محظوظة لأنها قابلت ذلك العملاق المصري طيب القلب مصطفى. قضت معه أعوامًا سعيدة لكنها رفضت كل محاولاته للزواج.. تريد أن تظل حرة تطرده متى أرادت.. وكانت تؤمن أن كل شخص حتى شارلي شابلن نفسه سوف يصير مملاً لا يطاق بعد فترة طالت أو قصرت. عندها لا تريد أن تتحمل شخصًا مملاً.


سمعت صوت سيارة فأطلت من النافذة..


لم تفهم ما يحدث لأن السيارة الڤان تقف عند المنعطف.. ثم رأت مصطفى قادمًا من خلف السيارة..


أصابها الجزع! إنه ملوث بالدم!! وجهه وصدر قميصه.. ماذا دهاه؟


هرعت ركضًا على الدرجات المنحدرة ثم مدت يدها تولج المفتاح القديم في البوابة الخارجية. خرجت له في الشارع تنظر لعينيه الزائغتين والدم الذي يغطيه ويسيل من بين أسنانه..


- «مصطفى!.. ماذا دهاك؟؟»


واندفعت نحوه لكنه أزاحها بخشونة، ثم مد يده يطبق على معصمها..


جرها معه نحو البناية، وهي لا تفهم شيئًا..


مصطفى/ أوتسي كان يشعر بشيء غامض يقوده في هذا الاتجاه بالذات.. ثمة شيء غريزي يحركه، كأنه جاء هذا المكان مرارًا.. السبب الآخر هو أنه كان بحاجة إلى الارتواء بعد كل ما لوث فمه من دماء. كانت معركة جيدة جندل فيها خصومه ومزق حنجرة أحدهم وكسر عنق الثاني، ثم مد يده في قلب الثالث فانتزعه.. هو كالوحوش يريد شرب الماء ليزيل مذاق الدم..


ثم أنه يشعر بحاجة قوية للتكاثر.. غريزة التكاثر تدفعه دفعًا نحو هذه الأنثى..


- «مصطفى.. لماذا تشدني بهذه القوة؟».


لكنه أصدر نوعًا من الزئير..


ثمة شيء غريب هنا.. انظري له جيدًا يا بلهاء. هذا ليس مصطفى.. هاتان ليستا عينيه. هاتان عينا مجنون..


انظري جيدًا يا بلهاء.. هذا الدم على وجهه وفمه وصدر قميصه لم يأت من أي جرح في جسده.. لا توجد جراح.. ألا تلاحظين هذا؟ هذا دم غرباء!


إنه يفتح الباب.. إنه يصعد معك إلى الشقة وهو يصدر خوارًا…


***************


الكهف كان دافئًا.. تشعر بقشعريرة عندما تتذكر البرد القارس بالخارج، وكل تلك الثلوج..


هناك مساحة واسعة وسط الهوابط، تتلظى نار ممتعة. وهم جميعًا يلتفون حول النار وينظرون لك في ذعر.. رائحة لحم يشوى في مكان ما..


تتقدم مرغمًا فوق الصخور وأنت تلوح بالبلطة منذرًا. يبدون بالضبط كالرجال الذين هاجمتهم بالخارج، لكنك مرغم على الانضمام لهم لأنك لم تعد تطيق الصقيع..


يا للرائحة الكريهة!.. يأكلون وينامون ويتغوطون في مكان واحد ولا يستحمون..


تتقدم نحو النار. أنت لا تعرف بروتوكول رجال الكهف، ومن الوارد أن ترتكب خطأ قاتلاً. تجلس وتنظر لهم.. تقول لهم:

- «أنا قد جئت في سلام.. لا أريد سوى بعض الدفء!».


هنا بدا عليهم الذعر والذهول.. وتراجع بعضهم غير مصدق.. أحدهم لوح بالرمح وهتف.. فقلت أنت:

- «ماذا تريدون يا رفاق؟».


من جديد بدأ الصياح..


أدرك مصطفى الحقيقة.. هؤلاء لا يعرفون الكلام.. لا يعرفون سوى تلك الأصوات المخيفة من حلوقهم، فلابد أنهم يعتبرونه ساحرًا أو إلهًا..


تأكدت الفكرة عندما مد أحدهم يده في النار وأخرج فخذ تيس مشوية يقطر منها الدهن، وقدمها لمصطفى وهو يرتجف…


تأكدت أكثر عندما جاء أحد الرجال يحمل شيئًا وألقاه عند قدمي مصطفى فانتفض مذعورًا.. كان هذا رأسًا.. بالتأكيد رأس واحد ممن قتلهم وقد قطعوه وجلبوه له لينال رضاه.. أو هو نوع من القرابين..


تأكدت الصورة أكثر فأكثر عندما رآهم يجلبون له كائنًا قذرًا منكوش الشعر كريه الرائحة، وأدرك من نظرة سريعة أن هذا الكائن أنثى..


طبعًا.. الزعيم يجب أن يظفر بالقرابين وأفضل قطع اللحم وإناث القبيلة.. يبدو أنه سيحب حياته الجديدة فقط لو فقد حاسة الشم..


متى وكيف حدث هذا؟ ولماذا صار أوتسي؟


***************


كلارا كذلك كانت تخوض أسوأ لحظات حياتها في تلك اللحظات……….


لم تتصور قط أن توجد هذه الفظاظة وكل هذا التوحش في شخص. لربما كان هذا ليروق لها في وقت آخر، فبعض النساء يعشقن فكرة رجل الكهف الفظ الذي ينال ما يريد بالقوة، لكن الأمر هنا بدا مريبًا.. كان فظًا بشكل حقيقي مروع. وخطر لها أنه لا يتكلم كذلك وإنما يصدر أصواتًا حلقية.


لماذا هو حافي القدمين؟ كأنه فقد حذاءه في حادث أو انفجار.. هل انقلبت به عربة؟


- «مصطفى.. لو كنت تعتقد أنني أحب هذا فأنت تبالغ!»


تمقت بشدة هؤلاء الذين يستمرون في الدعابة بعد ما يدركون أنها سخيفة. وهكذا أطلقت إنذارًا أخيرًا:

- «مصطفى !..أنت غير متحضر!»


كانت هذه أصدق عبارة قالتها في حياتها. وفتحت فمها ثم أطبقت بأسنانها على الساعد الغليظ المشعر، فسمعت صرخة حيوانية.. أطلق سراحها فتملصت وانطلقت تركض قاصدة غرفة النوم.. الثلاجة الصغيرة التي لم تجد لها موضعًا في الشقة سوى هناك.


«التكاثر!.. التكاثر!»


أغلقت الباب خلفها.. نظرت إلى فراشها الذي مازال ساخنًا. إنها الساعات الأولى من النهار. توقفت الضوضاء على الباب.. سمعت صوت الماء يتدفق من صنبور الماء في المطبخ.. المواسير كلها تترجرج والجدران كذلك. لم تفهم سبب لهفته على الماء لكننا نفهم أنها الحاجة إلى الارتواء.. الدم.. لابد من غسل الدم الذي ملأ فمه. وما لم تعرفه وعرفناه نحن، هو أنه قضى حاجته هناك في قاعة الجلوس جوار جدار.. لم يستطع أن يعيد غلق السروال لأن الزمام شيء لا يفهمه..


من جديد تسمع ضرباته على الباب..  مع زئير قوي..


«عااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااه !..»


هل تطلب الشرطة؟ للأسف سقط الهاتف منها في الخارج.. لابد أن تصمد.. ثم من قال إنه لا يمزح؟


تتوالى الضربات..


مصطفى!.. كف عن هذا الذي تفعله.. أنا مذعورة فعلاً.. ثق أنني لاأجد ذرة إثارة في هذا..


هل هو ثمل؟ أصدقاؤه قالوا إنه ليس على ما يرام. فهل هذا هو السبب؟ أين رفاقه؟


«التكاثر!.. التكاثر!»


هرعت إلى النافذة لتفتحها وليتسرب الهواء البارد. هل تصرخ؟ هنا رأت السيارة الڤان عند المنعطف لم ترحل بعد.. السيارة التي جاءت به.. برغم المسافة البعيدة، فقد أدركت أن هناك من يزحف على الأرض جوار الإطار الخلفي.. يزحف وهو يرتجف… رجل طويل الأطراف كالعنكبوت أو كأنه قلم رصاص آدمي.. كان الدم ينزف بغزارة من رأسه محدثًا بركة مخيفة من اللون الأحمر. زحف بضعة سنتيمترات أخرى ثم همد نهائيًا.


هذا الدم لم يكن دم مصطفى.. هذا دم من كانوا معه إذن..


مصطفى لم يعد هو. هناك شيء مخيف..


كانت فتاة ذكية، وقد قدرت أن الباب سيتهاوى حالاً.. عضلات المصري القوي سوف تنتزعه من مفاصله قريبًا…


اتجهت للثلاجة.. أخرجت زجاجة الماء  وبيد راجفة سكبت السائل عند مدخل الباب وحول عتبته، بحيث صار من المستحيل أن يمشي أحدهم دون أن يبتل..


نزعت قابس الثلاجة، ثم قطعت السلك بالمقص، وأعادت القابس إلى الفيشة، وبحذر طوحت بالسلك العاري ليتلوى على الأرض كثعبان… يتلوى وسط بقعة الماء فيكهربها بالكامل….


هرعت إلى المصباح الثقيل المجاور للفراش، فانتزعته من مكانه.. يصلح للضرب باعتبار هذه هي الخطة (ب) لو فشلت الخطة (أ)…


وقفت في ركن الغرفة تبكي وتنشج. لو دخل هذا الوحش الغرفة وفشلت خطتها فقد انتهى أمرها فعلاً.


«التكاثر!.. التكاثر!»


هي ضحية هشة سجينة في غرفة يوشك وحش مسعور على اقتحامها. كابوس الطفولة يتحقق يا كلارا..


تهاوى الباب ثم ظهر مصطفى وهو يزأر كأنه مذءوب في فيلم رعب..


ثم أنه صرخ وارتجف تلك الرجفة الكهربية (الجلفانية) المميزة.. وصار صوته رفيعًا حادًا، وبدا عاجزًا عن التحرر من مكانه.. ثم سقط أرضًا…


***************


أوتسي الذي صار مصطفى كان يجلس هناك أمام النار.. النار التي تتلظى في حفرة عميقة مخيفة يلتفون حولها.


لقد التهم الكثير من اللحم، وشرب شيئًا مبهمًا في نصف جمجمة.. كان الاشمئزاز يخنقه لكنه وجد نفسه مضطرًا لذلك.. رأسه يدور ومن الواضح أن هذا نوع من الخمر.. كل مجتمع عبر التاريخ صنع خمره الخاصة..


ألسنة اللهب تتعالى…


ثم أن بعض الكائنات منكوشة الشعر راحت تثب كالقردة حول النار. هذا رقص!.. رقص بدائي جدًا يثير الغثيان..


من الصعب أن يبقى متيقظًا برغم أن الحذر يدفعه لذلك..


كان الآن قد بدأ يفهم تفاصيل هذا الذي حدث.. ليس كل شيء. لا يعرف ظروف ما حدث، لكنه انتقل فجأة عبر 55 قرنًا ليصير هو أوتسي رجل الثلوج التيرولي.. هذا واضح.


بدأ يغيب عن الوعي بفعل الدفء.. بفعل الإرهاق.. بفعل تراقص النيران… بفعل حركة الراقصين..


ووسط ألسنة اللهب رأى..


رأى مصطفى الذي يعرف نفسه على شكله..


رآه يتقدم في غرفة يعرفها.. رآه يتلوى ويصرخ.. رأى كلارا تصرخ….


هل هو يحلم؟


***************


عندما نهض مصطفى من جديد أدركت كلارا أن أسوأ كوابيسها قد تحقق..


لقد سقط فتحرر من دائرة الصدمة الكهربية، ويبدو كذلك أن الكهرباء كانت أضعف من الفتك بهذه الجثة العملاقة.. فقط حطمت عظامه وجعلته أكثر جنونًا.. إنه سليم.


صرخت والتصقت بالنافذة…


قبضت على المصباح بقوة وصممت على أن تهوي به على رأسه، برغم أنها تعرف جيدًا أنه سيقبض على ساعدها بأصابع من حديد…


هذا ما حدث بالفعل. رفعت المصباح عاليًا، لكن مصطفى الذي غطى الشعر الطويل عينيه قبض على معصمها بقوة وثنى الرسغ فسقط التمثال منها…


- «مصطفى!.. أي مس شيطاني أصابك!!»


هنا تدرك فعلاً – وقد اقتربت منه جدًا – حقيقة أنه لا جروح في جسده. هذا كله دم آخرين.


لاااااااااااااااااااا !!!


***************


هناك حول النيران كانت سرعة الرقص تتزايد..


صوت خوار وزئير… غرغرة من الحلوق..


كان أوتسي يرى بعيني الخيال، وعبر 5500 عام كلارا الجميلة تصرخ وتبكي… يرى مصطفى يضربها بقسوة. لا شك أنه سيفتك بها فتكًا..


إن خيالاتهم تتراقص على جدران الكهف..


الرائحة الكريهة..


هنا أدرك الحقيقة: سوف يقتلونه. لقد قرأ كتاب الغصن الذهبي لفريزر يومًا، ويعرف أن قتل الأب وأكله عقيدة قديمة في المجتمعات البدائية، لأنهم يعتقدون أن هذا ينقل لهم قواه السحرية. وبعد هذا صارت عقيدة قتل الطوطم. إنه هو طوطم هؤلاء القوم..


لقد مجدوه وعبدوه وقدموا له القرابين والإناث كريهات الرائحة، وفي نفس الليلة سوف يفتكون به.. ولربما يأكلونه.


للأمر طابع ديني أكيد…


مد يده إلى البلطة الملقاة بجواره، وفكر في أن يطبق عليها، لكن يده كانت رخوة تمامًا.. لابد أن هذا الذي شربه كان يحوي نوعًا من الأعشاب المخدرة..


فكر أن يقاوم، لكنه كان عاجزًا عن ذلك…


هوت أول ضربة على كتفه فمزقته، ثم انغرس رمح في كتفه.. ليكونن موتًا بطيئًا شنيعًا إذن..


ثم خطر له أن موته قد يكون الأفضل فعلاً..


لن يتحمل الحياة في هذا الزمن ومع هؤلاء القوم..


قد يؤدي موته لإنقاذ كلارا، فالحقيقة هي أن وعي أوتسي يحرك هذا المسخ..


فقط يجب أن يحترق هذا الجسد.. يجب ألا توجد مومياء يجدها العلماء بعد 55 عامًا.. يجب أن ينال أوتسي الراحة النهائية، وإلا جاء عالم مجنون بعد كل هذه القرون وأعادها للحياة من جديد..


برغم الطعنات التي شلت حركته مع المخدر، زحف نحو النيران المتأججة وألقى بنفسه فيها..


وارتجف البدائيون الذين لم يفهموا ما حدث.. بدل أن يقتلوه وجدوه يقتل نفسه بنفسه.. يتلظى في النيران ويصرخ…


***************


ارتجف مصطفى الذي حاصر كلارا في الركن..


زاغت عيناه، ثم تهاوى أرضًا… كأنه دمية ماريونيت بلا خيوط…


على الأرض تكوم ولم تكن هناك أي علامة للحياة سوى تنفسه..


زحفت على ركبتيها حتى وجدت المصباح الثقيل. حبست أنفاسها وأغمضت عينيها وهوت على رأسه.. مرة.. مرة.. مرة..


فتحت عينها وراحت ترمق الجسد الضخم الذي رقد بلا حرك والدم ينز من رأسه..


ما لم تعرفه هو أنها قضت على جسد مصطفى ووعي أوتسي…. بينما عبر 55 قرنًا احترق جسد أوتسي ووعي مصطفى..


نترك للقارئ استنتاج ما حدث لقاعة للمومياء في متحف التيرول.. هل اختفت أم هي موجودة؟


لربما تغير التاريخ بالكامل. لا يعنيها هذا.. ما يعنيها هو أن مصطفى قد مات، وأنها لن تنسى هذا الفجر المخيف..


Comments

Popular posts from this blog

ماذا ينقص الخيال العلمي العربي ليصبح مرآة مستقبلية؟

ترجمة الفصل الثالث من رواية بوابة المالا نهاية ل مايك كاري