التلاعب في الماضي في روايات التاريخ البديل

التلاعب في الماضي في روايات التاريخ البديل


ماذا لو تمكن أحدهم من العودة إلى الماضي بوسيلة ما، وتلاعب في مسار بعض الأحداث التاريخية المهمة، بحيث ينتهي بنا المطاف إلى تاريخ مختلاف تماما عما نعرفه.. هذا بالضبط ما تفعله قصص التاريخ البديل؛ أو  Alternate History ذلك النوع الأدبي الذي يرتاد المسارات المختلافة التي كان التاريخ حريا باتخاذها، لو أن أحداثا تاريخية معينة اتخذت  مسارا مختلافا. ومن المصطلحات التي تطلق على هذا الطراز الأدبي: الخيال المضاد، أو ماذا لو، أو لربما حدث التاريخ بشكل مختلاف.

ولا يعد التاريخ البديل تاريخا بأي حال  من الأحوال، لكنه عمل  أدبي يتغير فيه التاريخ الذي نعرفه - التاريخ المسجل - لإحداث أثر  درامي، غالبا ما يكون ساخرا، وقد نما فرع التاريخ البديل ليصبح أكثر احتراما، وأقرب إلى اتجاه التيار الأدبي  الرئيسي، وهو يعتبر واقعا على تخوم عالم  أدب الخيال العلمي.


 تنظر الرواية من نوع التاريخ البديل إلى لحظة مصيرية فاصلة من التاريخ، تسمى (نقطة انقلاب،) ثم تحاول أن ترتاد السبل المختلافة التي كان من شأن التاريخ أن يمضي فيها لو أن الأحداث عند نقطة الانقلاب التاريخ البديل هذه جرت بطريقة مختلافة، على سبيل المثال؛ المسارات البديلة التي كان التاريخ سيسلكها لو كان الجنوب الأمريكي قد ربح الحرب الأهلية، أو كانت قوى المحور هي المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، أو كانت الكنيسة الكاثوليكية مع أرستقراطية العصور الوسطى قد تمكنتا من الدفاع عن  سلطتهما بنجاح، وقهرا الثورة البرجوازية البازغة في أوروبا.


 وتتوقف فاعلية قصة التاريخ البديل على إدراك القارئ وجود تبديل، والقاعدة الثابتة هي أنه يجب أن يكون الاختلاف بين الخط الخيالي  والخط  الحقيقي واضحا للقارئ، بحيث يدرك شيئا عن الحدث التاريخي محل التبديل؛ لذا ركز أكثر من مؤلف في كتاباتهم للتاريخ البديل على الحرب الأهلية الأمريكية، والحرب العالمية الثانية، والكوارث الأخرى المعروفة، وعلى  تلك الشخصيات التاريخية الرنانة، مثل: هتلر ولينكولن وتشرشل، فإلمام القارئ بالمسار الذي اتخذه التاريخ في عالمنا الواقعي ؛ يخلق في التو فجوة في الإدراك بين التاريخ الحقيقي والتاريخ البديل الذي تطرحه الرواية،  ومن المفترض أن يتشجع القارئ عند ذلك؛ كي ينظر إلى التاريخ تحت ضوء جديد، ويفهم أن نتائج التاريخ تعتمد على تصر فات بشرية معينة،  وليست مقدرة مسبقا.


للوهلة الأولى تبدو رواية التاريخ البديل أوثق صلة بنوع الرواية التاريخية منها بالخيال العلمي؛ لذلك أحيانا ما يضع بعض الباحثين التاريخ البديل ضمن قصص الخيال العلمي، بينما ينظر إليه آخرون ٍ كنوع  أدبي  مستقل ، بينما البعض الآخر لا يرى أي صلة بينهما، وهو من  وجهة نظرهم قد حسب على الخيال العلمي  فقط؛ لأن الكثير من مؤلفي  الخيال العلمي قد كتبوا أعمالا تنتمي إلى التاريخ البديل، نشرتها العديد من  مجلات ودور نشر الخيال العلمي ، وحجتهم في ذلك أن التاريخ البديل لا يولي اهتماما بالمستقبل، ولا يقوم على أساس العلم كما هو الحال في روايات  الخيال العلمي، و بالتالي لا يصح  - في نظرهم - أن ننسبه للخيال العلمي.


لكن القائلين بوجود رابط بين هذين الجنسين الأدبيين؛ يرون أنه  من الخطأ أن نقصر الخيال العلمي على العلوم الطبيعية أو (البحتة)  فقط، ونتجاهل أن روايات الخيال العلمي تقوم أيضا على أساس العلوم الاجتماعية، مثل علم التاريخ وعلم النفس والاجتماع والعلوم السياسية.


  وهم يؤكدون أن بين الاثنين الكثير مما يجمعهما؛ فإن كان الخيال العلمي يفترض تغيرا في الحاضر والمستقبل الأقرب، ويتخيل تأثيره على المستقبل الأبعد، فإن التاريخ البديل يتخيل أيضا تغيرا في الماضي الأبعد، ويختبر نتائجه على الماضي والحاضر الأقرب، وفي الحالتين الأسلوب المتبع  واحد، لكن الاختلاف يكمن في الوقت الذي يطبق فيه ذلك الأسلوب، إضافة  إلى إن وسيلة السفر للماضي لتغيير مسار التاريخ في روايات التاريخ البديل؛ غالبا ما تكون السفر عبر الزمن، وهو أقدم فروع الخيال العلمي وأكثرها شهرة ، من ناحية أخرى تحقق رواية التاريخ البديل كثيرا من تأثيرات الإغراب في الوعي الذي تحدثه روايات الخيال العلمي، والتي تتمحور كلية حول هذا الإغراب


أنواع روايات التاريخ البديل

من الأنواع الفرعية شديدة الشعبية لروايات التاريخ البديل؛ ما يتحدث عن الحرب العالمية الثانية، وماذا لو فازت بها دول المحور، كما في رواية فيليب ديك الرجل في القلعة العالية (الحائزة على جائزة هوجو،) والتي تصور تاريخا بديل كسبت فيه ألمانيا واليابان الحرب العالمية الثانية.


 تميل عادة معظم روايات قصص التاريخ البديل إلى رسم صورة  للديستوبيا أو المجتمعات السيئة التي كان يمكن أن تكون موجودة، مثل  رواية جزر الصيف 1998 للمؤلف أيان ماكلويد، والتي تحكي عن بريطانيا وديكتاتورية ما بعد خسارة الحرب العالمية الأولى، فيما تصور رواية مراسلت من الثورة 1991 لبات كاديجان؛ أمريكا دون وجود انتخابات ولا حقوق مدنية، بينما في روايتي دماء الأسد 2002 وقلب الزولو   2003 يتخيل ستيفن بارنز أمريكا وقد استعمرتها إفريقيا لا أوروبا.


 على حين يتصو ر روبرت سيلفربرج في روايته بوابة العوالم 1967  عالما يكون فيه لوباء القرن الرابع عشر الذي اكتسح أوروبا، آثارا أكثر تدمير ا بكثير مما حصل في الواقع، ما يشل قدرات أوروبا للدرجة التي تجعل من نهضتها التالية ـ التي هيمنت بها على العالم ـ مستحيلة وفي رواية سنوات الأرز والملح 2002لـ كيم ستانلي روبنسون تختفي أوروبا والمسيحية من على خشبة مسرح التاريخ، ويصير التنافس ما بين الصين والإسلام ـ الذي سيسود في النهاية أوروبا. وتخيلت روايات أخرى  للتاريخ البديل عالما أخفق أسلوب الحداثة الغربي في تحقيق سيطرته على العالم، كما في رواية قرن الأزتيك لكريستوفر إيفانز 1993 ، بينما في حالة رواية رقصة البافان لكيث روبرتس 1968فتتمكن الكنيسة الكاثوليكية مع أرستقراطية العصور الوسطى من الدفاع عن سلطتهما بنجاح وقهر الثورة البورجوازية البازغة في أوروبا.


تفترض العديد من قصص وروايات التاريخ البديل أيضا؛ أنه يمكن ٍ لأكثر من عالم مواز الوجود في تواريخ متباينة، بحيث يمكن للشخصيات  السفر أو الانتقال زمنيا من خط  زمني  إلى خط  زمني آخر، مثل مسافر يبدل ركوب القطارات، على سبيل المثال؛ الانتقال الزمني لبطل ـ رواية سار حول الأحصنة للكاتب هـ. بيم بايب   1948 الذي اختفى فجأة  دون أي تفسير، ودون أن يترك أي أثر في عالمه، ليجد نفسه في أوروبا بديلة عام  1809فشلت فيها الثورتين، الأمريكية والفرنسية.


وينعطف مسار التاريخ بالكلية، إلى نحو مختلاف في بعض الأعمال،  على سبيل المثال في رواية لئلا يحل الظلام للكاتب ل. سبارج دي كامب  1941يدخل عالم الآثار مارتن بادوا - حينما يجد نفسه في روما القرن السادس الميلادي - اختراع الطباعة والأرقام العربية وإسهامات الفلك لكوبرنيكوس، في محاولة ناجحة منه للحيلولة دون مجيء العصور المظلمة. وفي سلسلة الحرب العالمية ذات الأجزاء الأربعة للكاتب هاري تورتليدوف 1996 – 1994يقاطع الحرب العالمية الثانية غزو  من قبل فضائيين مسلحين بأسلحة نووية ، وكان على قوات المحور والحلفاء الاتحاد  معا لمواجهة التهديد المشترك.


وقد لا يصور التاريخ البديل لحظات الانحراف عن التاريخ دراميا دائما، ٍ ففي أحيان كثيرة  تبدأ القصة أو الرواية بعد سنوات عديدة من حدوث تلك  اللحظة، ليؤخذ القارئ في الحال إلى عالم مختلاف، وتصبح متعة القراءة  اكتشافا ليس فقط لما سوف يحدث، ولكن أيضا لما حدث، ليصبح هذا العالم البديل على ما هو عليه، وتعد رواية م طلق الإشارة لكيت روبرتس 1966 مثالا على ذلك، حيث يدخل القارئ مباشرة إلى إنجلترا غريبة في القرن العشرين، لا تزال العاصمة فيها معروفة باسم لنديوم.. ولم يظهر  فيها اختراع الراديو بعد! والدولة والكنيسة كيان  واحد، حيث يفرض الكهنة والجنود ومحققوا محاكم التفتيش المذهب الكاثوليكي في سائر أنحاء البلد، ويفهم القارئ تدريجيا أنه في عالم وضعت فيه نهاية لحركة الإصلاح الديني وحركة النهضة الإنجليزية.. وقد دمج روبرتس فيما  بعد قصة مطلق الإشارة، وقصصا أخرى ذات صلة، في رواية بافان  1968 والتي يعتبها الكثيرون من أفضل روايات التاريخ البديل.


تتسم بعض قصص التاريخ البديل بأنها أكثر هزلا، وفي بعض الأحيان أكثر خبثا، حيث تركز على تحويرات أكثر هدوءا، بتحويلها لمسار بعض   الشخصيات الشهيرة؛ فيقدم لنا في إحداها الرئيس الأمريكي إيزنهاور بوصفه مؤلف موسيقي، بينما ألفيس بريسلي بوصفه سيناتور أمريكي، في حين يتخلى  فيدل كاسترو عن السياسة لصالح رياضة البيسبول.


كما يوجد نوع شخصي  جدا من التاريخ البديل، وهو الذي يتكرر فيه جزء من حياة البطل مع بعض الاختلافات؛ كرواية إعادة للمؤلف كين  جريموود 1986 الحائزة على جائزة وورلد فانتازي؛ التي تبدأ عام   1988 بوفاة بطلها، مع العبارة الأولى من الرواية، ليعاود الاستيقاظ  من الموت فيجد نفسه في عام  1963 وعمره ثمانية عشر عاما، ولكن مع  ذكريات الخمسة وعشرين عاما السابقة، فيختار اختيارات عديدة مختلفة هذه المرة؛ فيجعل من نفسه شخصا أغنى وأكثر رضا ، لكنه يموت مرة تانية ويستيقظ شابا مرة أخرى، وفي هذه المرة يكون لديه ذكريات حياتين، لتستمر حياته في التكرار مرة تلو الأخرى، حيث يمر  بكل  خط  زمني بديل في استطاعته أن يأتيه، حتى تلك الخطوط التي تنتهي بانتحاره. 


وفي النهاية نستطيع أن نقول إن روايات التاريخ البديل تهيئ فرصا للخيال العلمي كي يرتاد جوانب عديدة من تاريخ عالمنا، فإن سيناريو (ماذا لو) المتبع في هذه الفروع من الأعمال الأدبية يهيئ وجهات نظرٍ جديدة  من ضمنها (ماذا كان،) و(ماذا هو كائن في عالمنا نحن،) كما أن لدى هذه الروايات مخزونا كبيرا لخلق نوع من خبة القراءة التي تستفز التفكير، وهو الجوهر في جميع روايات الخيال العلمي


المقال كتابة محمد خيري الخلل ونشر في مجلة تخيل يناير 2018

Comments

Popular posts from this blog

ماذا ينقص الخيال العلمي العربي ليصبح مرآة مستقبلية؟

ترجمة الفصل الثالث من رواية بوابة المالا نهاية ل مايك كاري