الخيال العلمي.. ولم لا؟!



ليس سرا أن الخيال العلمي بدأ عندنا كأدب موجه إلى الأطفال والمراهقين بصورة خاصة، وأننا وجدناه في سلسل كتب الجيب والروايات المصورة، بل يمكن أن نقول إنه كان شيئا يجب أن يقرأ في مكان خاص، وأن يستتر بين غلاف مجلد محترم يخفيه عن أعين الكثيرين ممن كانوا ينظرون إليه على أنه قصص ذات طابع صبياني ساذج، تتبنى مواضيع خرافية لتحقيق إثارة القارئ.

والغريب أن الكثير من المهتمين بالآداب الجادة لا يزالون ينظرون إليه بنفس المنظور، ويمكن القول - بل خطأ كبير - إن الحركة الأدبية العربية لم تتعامل قط مع الخيال العلمي بجدية، الجميع يصر على أنه أدب من الدرجة الثالثة، أو في صيغة أكثر تأدبا أدبا شعبيا، لا يرقى في قيمته وأهميته إلى مستوى الأدب الحقيقي، ومع كل ما يتمتع به من اعتراف واحتفاء في العالم الغربي، إلا أنه ما يزال يشغل ركنا متواضعا غير محسوس بين الأنواع الأدبية المعروفة في العالم العربي. هناك محاولات فردية من الكتاب، ومحاولات فردية من النقاد، لكنه لم ينم قط ليأخذ شكل تيار ، أو بمعنى آخر؛ يوجد لدينا أدباء خيال علمي،لكن ليس لدينا أدب خيال علمي ، فنصوص الخيال العلمي العربية المنشورة معدودة، وتطبع بكميات ضئيلة لا تتناسب مع حجم الطلب المتوقع من تعداد الناطقين بالعربية.

وفي الوقت الذي يوجد في دولة مثل كندا - يبلغ تعدادها أقل من خمس تعداد العالم العربي - نحو أربعين مقررا دراسيا مخصص للخيال العلمي في الجامعات الكندية، لا يتم تدريس أدب الخيال العلمي تقريبا في أي من الجامعات العربية، أو حتى تناقش جمالياته أو نظرياته في الأطروحات الأكاديمية. وفي حين يوجد في الهند نحو مائة وأربعين جمعية ورابطة كت اب وهواة للخيال العلمي، لا توجد جمعية واحدة معروفة مختصة بالخيال العلمي في طول وعرض العالم العربي.

لعل هذا مرجعه إلى الفهم الخاطئ للخيال العلمي كمنتج للحضارة الغربية، يعبر عن هذه الحضارة، وتميزها العلمي والثقافي، ورؤيتها للمستقبل، أو ربما لعزوف كثير من المبدعين عن المشاركة في إنتاج هذا النوع الأدبي، لقصورهم عن المعارف العلمية والتقنية التي يتطلبها مثل هذا النوع من الكتابة، أو لخضوعهم لسيطرة الاتجاهات النقدية الموروثة عن الستينيات، التي تعتبر الخروج عن ما يسمى بجماليات وتيمات الواقعية الاجتماعية، أو نسختها الأكثر تطرفا والمسماة بـالواقعية الاشتراكية، هو بمثابة نوع من الهرطقة التي ي عاقب صاحبها بالنبذ والتجاهل.

من جانب آخر، هناك عوامل تمت للخيال العلمي نفسه كنوع أدبي، وتساهم في تعزيز الحصار المضروب حوله في العالم العربي؛ فالخيال العلمي يحتاج إلى وعي كل من المبدع والمتلقي بدور العلم في المجتمع، وبالقضايا والإنجازات العلمية للإنسان المعاصر، وهذا الوعي غائب عنٍ جمهور عريض من الناطقين بالعربية.

يمكن أن نضيف كذلك أن العقلية العربية بطبعها تنفر من ضرب الأدب الذي يصف نفسه منذ البداية بأنه خيال، فالراوي العربي القديم كان ٍ بحاجة دائمة إلى إقناع مستمعيه بأن ما يحكيه أحداثا واقعية شهدها بنفسه، وإلا فقد اهتمامهم، فضل عن أن فكرة العمل القصصي عند المتلق العربي لا زالت تقوم على تيمات محدودة؛ كالهزيمة السياسية والجنس، أو تفصيل لواعج النفس والخاطر، وحين تحاول أن تلتف حول أي من هذه الرموز، فأنت تخاطر بأن تصنف نفسك إما كدخيل أو مغامر، واحتمال أن تجد نفسك منبوذا، وارد جدا.

القصور في حركة ترجمة هذا النوع مسئولة أيضا عن عدم ذيوعه في منطقتنا، بما يتلاءم مع أهميته في القرن الواحد والعشرين، وبالنظر إلى قائمة الروايات التي تمت ترجمتها إلى اللغة العربية؛ سنجد أن الحصيلة في غير صالحه بالمرة، ولا تتناسب مع العطاء المتدفق الفياض الذي يقدمه أدباء الخيال العلمي في العالم اليوم؛ فأغلب الر وايات التي تمت ترجمتها مقصورة على أعمال الأدباء الكلاسيكيين، وسوف نرى للأسف أن أغلب المحاولات التي قدمها الكاتب العربي المعاصر في أدب الخيال العلمي كانت ظل لنفس التيمات التي أبدعها هؤلاء، وأنه حتى المثقف العربي العادي غالبا لا يبتعد كثيرا في معرفته عن الكلاسيكيين، والدراسات المكتوبة أغلبها يقف عندهم أيضا، وبنظرة سريعة على ما ينشر من مقالات ودراسات حول أدب الخيال العلمي في المجلات والدوريات العربية ستكشف بوضوح أن معظمها يسير في هذا الاتجاه.

وأخيرا.. ثمة تفسير متفائل يرجع الأمر إلى حداثة التجربة الروائية العربية أصلا، على أساس أنها لم تصل بعد لمرحلة التخصص في أنواع أدبية أكثر انتقائية مثل الخيال العلمي.

غالبا هذه هي معظم الأسباب والحجج التي يتكرر ترديدها، كل ما تجدد الحديث عن واقع أدب الخيال العلمي في مصر والعالم العربي ، أغلبها طبعا حقيقي ، وما زال له وجاهته، لكنها من جهة أخرى تتعقد الأمور أكثر، والتسليم بها يعني أننا لن يكون لدينا خيال علمي حقيقي قبل سنوات. لكن.. هل هذا كل شيء؟! هل قدر للخيال العلمي أن يظل دائما نوعا ملعونا محبوسا داخل جيتو من التجاهل والاحتقار؟!

الإجابة هي بالطبع لا.. لأن الصورة ليست بهذه القتامة؛ هناك جوانب مضيئة ظهرت اليوم، والأمر اختلف عما كان في الماضي، ولم يعد بهذا السوء؛ فمع انتعاش حركة النشر، وارتفاع معدلات القراءة، وازدياد عدد المؤلفين والمترجمين والناشرين، صار القارئ اليوم أكثر وعيا، وذائقته أكثر انفتاحا على مختلف ألوان الأدب، ومعيار الجودة وحده صار هو الحاكم في معظم اختياراته وتفضيلته الأدبية، وهذا جعله يقبل على الرواية الجيدة أيا كان نوعها؛ تاريخية، واقعية، عاطفية (رومانسية،) ولم يعد ذلك القارئ القديم المحصور داخل أنماط أدبية معينة.. هناك أجيال جديدة من القر اء تشكل وعيهم بعيدا عن القوالب الجاهزة والتفكير المعلب، أجيال انفتحت على أغلب ثقافات العالم، ولم تعد أسيرة ثقافة أو اتجاه معين

السينما أيضا ساهمت بدور كبير في الدعاية والتر ويج للخيال العلمي، هناك روايات كثيرة تحولت إلى أفلام عظيمة، وصارت من كلاسيكيات السينما العالمية، واليوم.. ومع تقدم التقنيات والخدع السينمائية، صارت أفلام الخيال العلمي تقدم بشكل مبهر جدا، ينجح في جذب جمهور عريض من الكبار والصغار، سرعان ما ينضمون إلى صفوف المعجبين والمهتم ين بالخيال العلمي، ويلمسون بأنفسهم الجانب الأدبي والإنساني الثري للخيال العلمي - ولا يعد بالنسبة لهم مجرد أطباق طائرة وغزاة من الفضاء وسيوف ليزر، كما هو بالنسبة للبعض الآخر - ويصبحون ٍ على استعداد للتفاعل الإيجابي مع ما يقدم منه لهم، بشرط أن يكون من الأعمال الجادة التي تعبر فعلا عن حقيقة الخيال العلمي، وتعزز من ثقتهم فيه، وتدفعهم باتجاه التعاطي مع أعماله.

هنا يأتي دور - ومسئولية - المهتمين والمتحمسين للخيال العلمي من الكتاب والمترجمين والناشرين - للعب دور أكبر في التعريف بذلك النوع الأدبي، والترويج له، وتقديمه للقارئ العربي بالشكل الجاد الذي يحفزه ويدفعه تجاه التفاعل اللائق مع نتاجه الغزير.

وهذا هو ما سنحاول القيام به في هذه السلسلة..
فهل ننجح؟!
أعتقد أن حسم ذلك متروك للقارئ وحده!

كتب المقال محمد خيري الخلال ونشر في مجلة تخيل الالكترونية منشورات ويلز اصدار يناير 2018

Comments

Popular posts from this blog

ماذا ينقص الخيال العلمي العربي ليصبح مرآة مستقبلية؟

ترجمة الفصل الثالث من رواية بوابة المالا نهاية ل مايك كاري