أعمال الخيال العلمي.. خصب أدبي يصنع أعظم اختراعات الهندسة والفلك




تحظى أعمال الخيال العلمي باهتمام وفير من قبل فئات عمرية شتى، وتحتل مكانة مرموقة لدى شريحة كبيرة من المغرمين بالمزج الفريد الذي يجمع بين الإثارة والتكنولوجيا، إذ يسعى المؤلف إلى فرض واقع مغاير لما تعتاده الفيزياء المألوفة بطرحه أفكارا خارقة للطبيعة وباستخدام نظريات فيزيائية وتقنية أو حتى بيولوجية مبنية على خيال خصب.


هنا تتحطم قوانين الفيزياء ولا تجد لها سبيلا أمام قلم الكاتب وحبكة المخرج، فنرى عوالم في الكون غير الأرض يستوطنها جمعٌ من الكائنات الحية بخصائص وصفات غريبة ومغايرة، أو نرى وسائل سفر تقطع المسافات الشاسعة بشكل آني مثل ما تطرحه فرضية الانتقال اللحظي (Teleportation)، ونرى رجالا آليين يحكمون الكوكب ويستعبدون البشرية، وقصصا أخرى تتحدث عن عوالم افتراضية تدجن البشر وتستخدمهم كبطاريات لتزويد الحواسيب الإلكترونية بالطاقة اللازمة كما هو الحال في الفيلم الشهير “المصفوفة” (Matrix)، والكثير من الحبكات الأخرى التي لم يبخل علينا بها مبتكرو الخيال العلمي.


والخيال العلمي لم يكن نتاج ما آل إليه العصر الحديث من تقدم تكنولوجي ومعرفي، بل إن ظهوره بدأ منذ أكثر من مئتي سنة، وتشهد عليه الأعمال الأدبية الخالدة. وقد تتابع بروزه على يد عدد من الكتّاب ذوي الشأن مثل الروائي الفرنسي “جول فيرن” وروايته “من الأرض إلى القمر”، والكاتب الشهير الروسي “إسحاق أزيموف” وموسوعته العلمية الضخمة، والكاتب الأمريكي “آرثر كلارك” وغيرهم الكثير.


ولم يكن تأثيرهم يوما مقتصرا على فئة محددة من المجتمع، بل إنّ دائرة التأثير طالت علماء الفضاء والمهندسين والمختصين، حتى ظهر ذلك جليا في عدد من التسميات الحديثة التي حاكت الكثير من الأسماء المشهورة، كما تعززه مهمة “نيو هورايزن” (New Horizon) المخوّلة باستكشاف سطح كوكب بلوتو، إذ تظهر بعض الأسماء مثل “ماونت سبوك” و”فولكان بلانوم” و”سيرينتي تشاسما” و”كلارك مونس”، وهي جميعها أسماء مستوحاة من سلاسل الخيال العلمي.


“إدوي إبوت”.. شروحات هندسية في قوالب أدبية

في روايته القصيرة “الأرض المسطحة.. قصة خيالية متعددة الأبعاد” لم يكن المحاضر البريطاني “إدوي إبوت” مغرما بشرح الهندسة الفراغية في الفضاء الإقليدي، وربّما لم يكن مدركا لمسلمات هندسة “ريمان” الإهليلجية، أو حتى على اطلاع بالهندسة الزائدية، بل اعتمدت الرواية على تسليط الضوء على الطبقية القبيحة التي كانت تضرب المجتمع البريطاني، باستخدام بعض التعابير والأوصاف المجازية الهندسية، ومع ذلك استطاع أن يضع أحد أعظم الشروحات في علم الهندسة بجزالة وإيجاز.


ويقول الأديب “أزيموف” معقبا: إنّها أفضل مقدمة يمكن للمرء أن يعتمدها في سبيل فهم اختلاف الأبعاد المكانية.1


وكثيرا ما افتقر الروائي إلى المعلومات الدقيقة أو الفهم العميق للمسائل العلمية إذا لم يكن متخصصا، لكن لعلّ ذلك ما يمنحه صفة تميزه عن غيره، إذ يرى المشهد في قالب ومنظور آخر، ولأنه غالبا ما يكون استخدام العلم والحبكات العلمية لغرض تعزيز الإثارة، وهذا لا يتحقق إلا بوجود حلول أو طرق جذرية خارقة للعادة، مثل المشهد الأسطوري للتنقل السريع بواسطة كبينة “تراديس” في مسلسل الخيال العلمي “دكتور هُوْ” (Doctor Who).


“إدجار ألين بو”.. خيال أدبي خصب يلهم علماء الفلك

من المعضلات التي وقفت في طريق الفلكيين لسنوات طويلة؛ ما تضمنته فيزياء “نيوتن” الكلاسيكية عن الكون والفلك، إذ كانت تدفع الفلكيين إلى التساؤل: لطالما كان الكون محدود، وانتقال الضوء لحظيا -كما كان معروفا في القرن التاسع عشر- وثمّة أعداد هائلة من النجوم، فلماذا إذن تكون سماء الليل مظلمة بدلا من أن يغشاها النور.


وقد ظهر حل هذه المعضلة على يد الأديب الأمريكي عرّاب أدب الرعب “إدجار ألين بو” بعمله “يوريكا”، معللا بعض الظواهر الفلكية التي لم تحظ بالاهتمام الكافي، بل لقيت حتفها سريعا وبقيت حبيسة الأرفف، ومنها حديثه عن كون ديناميكي تتوسّع حدوده وتتباعد نجومه عن بعضها. وهذا تعليلٌ كاف في جذب أحد أعظم رياضيي القرن العشرين العالم الروسي “ألكسندر فريدمان”، وكان أحد المعجبين بالأديب الأمريكي. ففي عام 1922 وضع “فريدمان” النموذج الرياضي لكون ديناميكي بديل للثابت الكوني في معادلات “ألبرت أينتشاين”.


ليس هذا فحسب، بل إنّ الراهب والرياضي البلغاري “جورج لوميتر” كان من أبرز المتأثرين بأعمال “ألين بو”، ذلك قبل أن ينشر عمله “فرضية الذرة البدائية” (Hypothesis of the Primeval Atom) في عام 1927 وهي النواة الأولى التي تتحدث عن إمكانية نشوء الكون من نقطة تفرّد واحدة، بلفظ آخر: نظرية الانفجار العظيم.2


خيال الأدب المجنح.. نبوءات تقتحم عالم الاختراعات ولو بعد حين

لا تقف الأفكار بشكل عام على الكم المعرفي فقط، وإنما تلعب خصوبة الخيال دورا هاما في تحليل الظواهر الطبيعية، وهذا ما يستند عليه جلّ الكتاب والروائيين، فنجد بأنّ حيّزا من الحقائق العلمية وبذورا لاختراعات تقنية تتجلى في كتاباتهم، سواء أدرك الكاتب ذلك أو لا.


ولو تمعنا جليا في أعمال الخيال العلمي، سنجد بأنها لا تتألف من الفانتازيا فحسب، بل إنها احتوت على أفكار علمية صائبة، وساهمت بشكل كبير في تعزيز وجود كثير من المنتجات والمخلفات التقنية الحديثة، ومن المثير الحديث عن الأديب الإغريقي “لوقيان السميساطي” الذي تحدث عن سفن سماوية تحلّق نحو القمر قبل الميلاد، وهو ما حدث فعلا بعد ألفي عام.


والقائمة تطول حتى لا تكاد تنتهي عند عدد معيّن من الاختراعات التي تتوالى مع تقدم الوقت، وفضل وجودها يعود إلى هذه الأعمال الفنية. ولعلّنا نتطرق إلى أبرز الاختراعات التي تنبأ الخيال العلمي بوجودها في المستقبل بمجالات شتى منها الطب والفضاء، وكذلك في عالم الشبكات والاتصالات وغيره.3


ففي عام 1869 نشر الكاتب والمؤرخ الأمريكي “إدوارد إيفريت هالي” روايته القصيرة “القمر القرميدي” ليصف فيها مجسما ضخما أقرب لشكل كرة مصنوعة من الطوب، وهي أشبه بمحطة فضائية تندفع إلى السماء بواسطة آلية قذف تعتمد على قوة تدفق مياه النهر، بينما كان يمكث بداخلها جمعٌ من الناس.


وفي عام 1945 كتب الروائي الأمريكي “أرثر كلارك” مخطوطة بعنوان “محطة الفضاء”، ليضع هو الآخر خارطة مثيرة لبعض تطبيقات موجات الراديو، مثل الاتصالات ونقل إشارات التلفزيون والراديو عبر محطات قابعة في الفضاء، أو بمسماها الحديث عبر الأقمار الصناعية، وهذا كان قبل فترة طويلة من دخول تطبيقات الشبكات حيّز التنفيذ وحتى قبل ظهور الأقمار الصناعية نفسها.


“إريوان”.. صراع الذكاء الصناعي قبل قرن ونصف


لا يعد مفهوم الذكاء الصناعي حديث اللحظة، بل تعود جذوره إلى أكثر من 150 عاما، فقد كتب الروائي الإنجليزي “صامويل بولتر” روايته “إريوان” في عام 1872، وتتناول بسخرية مجتمعا طوباويا مثاليا، ويتطرق الكاتب إلى الحديث عن العلاقة الفريدة التي تجمع بين الإنسان والآلة، إذ تبيّن للإريوانيين أن مفهوم الوعي ليس بعيد المنال عن الآلات، والإريوانيون هم الشعوب التي اعتمدها الكاتب في روايته.


 ذلك الوعي دفع تلك الشعوب إلى مجانبة التعامل مع الآلات وعزلها عن حياتهم خوفا من أن ينمو وعيها، فتعتمد على تطويع ذكائها لتطوير نفسها أكثر وأكثر، وتنتهي الرواية عند احتمالين مفتوحين على بعضهما؛ فإما أن تكون الآلات امتدادا للنمو البشري، وتصبح أحد الملحقات المساعدة، مثل ما هو الحال مع الحواسب والهواتف والأطراف الصناعية وغيرها. أو أن تكون الصورة معاكسة تماما، فيكون الإنسان إحدى أدوات الآلة، في ظل التنافس وتنامي الذكاء الصناعي بين الآلات الحديثة الواعية، بعد أن تحكم قبضتها على كوكب الأرض.4


مظاهر الحياة الحديثة.. خيالات تسللت من الأوراق إلى الواقع

مما يدعو للإثارة أن الكاتب المرموق “جول فيرن” استطاع صياغة مجموعة كبيرة من الاختراعات التقنية والعلمية، وتنبأ بحلولها قبل أوانها بكثير، مثل عملية استكشاف قيعان البحار والمحيطات، إذ أشار في روايته “عشرون ألف فرسخ تحت الماء” إلى أن سفنا تجارية كانت تتحطم في عرض المحيطات وتغرق دون ترك أي أثر لها، وهو ما دفع القباطنة إلى توهم أنّ وحشا بحريا مروعا يتسبب بكل تلك الجرائم، فتنطلق إحدى السفن بقيادة بطلي القصة للتحقق من الأمر، ليكتشفا وجود غوّاصة كهربائية ضخمة تبحر في أعماق البحار. وبعد نحو 30 عاما من صدورها، دفعت هذه الرواية المخترع الأمريكي “سيمون لايك” إلى اختراع غواصته الأولى من نوعها في عام 1898.


وعلى صعيد الآلات الحربية، استطاع الكاتب البريطاني الشهير “هربرت جورج ويلز” المشهور بتوقعاته العلمية، أن يصف النمط التقليدي للدبابات التي نعرفها اليوم، عبر روايته “أرض المدرعات” (The Land Ironclads)، إذ دفع بالسفن الحربية في ذلك الحين إلى القيام بمهامها، لكن على الأرض بدلا من الماء، وهو النموذج الأوّلي من الدبابة التي ظهرت في الحرب العالمية الأولى في معركة “السوم” بعد 17 عاما من صدور الرواية.


وبما أننا تطرقنا إلى الجانب العسكري، فالمهندس الحربي والفنان الإيطالي المبتكر “ليوناردو دا فينتشي” يعتلي هرم التوقعات، فقد رسم مخطوطات عدّة لمستقبل الآلات التي ظهرت بعد أكثر من 5 قرون، أشهرها مجسم الطائرة المروحية.5


أما سلسلة “ستار تريك” (وهي إحدى أشهر سلاسل الخيال العلمي في تاريخ التلفزيون، وتعود بدايتها إلى منتصف سبعينيات القرن الماضي)، فقد استطاعت لوحدها التنبؤ بقدر لا بأس به من الاختراعات، وأن تعرج على كثير من مظاهر الحياة الحديثة التي يعيشها الإنسان اليوم، وتتضمن القائمة أمورا منها الهواتف الذكية، والطباعة ثلاثية الأبعاد، ونظارات غوغل الحديثة، والتشخيص الطبي الذكي اللحظي، وأجهزة الترجمة الفورية وغيرها.


أعمال الخيال العلمي.. إلهام العلماء وتأجيج الرأي العام

لم تقتصر أعمال الخيال العلمي على الاختراعات فحسب، بل قد ترسخت في عقول كثير ممن اعتلوا المهام الاحترافية العالية، لا سيما روّاد الفضاء وعلماء الفلك الذين أبدوا تفاعلا كبيرا مع استطلاعٍ أجرته عالمة الفلك “إليزابيث ستانواي” من جامعة ووريك في بريطانيا. وقد تضمنت الدراسة 275 فلكيا من مناطق متفرقة في أثناء حضور حفل الاجتماع الوطني البريطاني لعلم الفلك عام 2022.


ووفقا للاستطلاعات وجدت “إليزابيث” أنّ نسبة 69% من هؤلاء الفلكيين أظهروا اهتمامهم بالخيال العلمي، بل إن حياتهم المهنية قد تأثرت بتلك الأعمال. ويظهر ذلك في عدد من التسميات التي أطلِقت على مجموعة من المناطق في كوكب المريخ وكواكب أخرى تحمل إشارات أو أسماء كانت قد استخدمت في أعمال الخيال العلمي.6


إضافة إلى ذلك، يلعب الخيال العلمي دورا مهما في تحوير الرأي العام وتأجيج كثير من القضايا المجتمعية فيما يتعلق -على سبيل المثال- بغزو الكائنات الفضائية لكوكب الأرض، أو إمكانية اندلاع حرب فضائية بين البشر والكائنات الأخرى، وأمور أخرى من هذا القبيل، وهذا من شأنه استحداث بعض المفاهيم في الحياة الاجتماعية.


وكما كان للخيال العلمي فضل في ظهور عدد من الاختراعات الحميدة، فإنه على الوجه الآخر مهّد لظهور بعض الآلات ذات الاستخدام غير المحمود، وإن كانت الغاية التي سعى إليها صنّاع الخيال العلمي هي تجنب مستقبل مظلم لكوكب الأرض وللبشرية.


كتب المقال ايمان الشريف ونشر في موقع الجزيرة الوثائقية اكتوبر 2022


Comments

Popular posts from this blog

ماذا ينقص الخيال العلمي العربي ليصبح مرآة مستقبلية؟

ترجمة الفصل الثالث من رواية بوابة المالا نهاية ل مايك كاري