إلى أسفل!!

  

كان البوفيسور ليدنبروك أحد الحالمين بالقيام بمغامرة مجنونة  لم يقم بها أحد في العالم من قبل.. فهو يعرف أن كثيرا من العلماء قد  فكروا في السفر إلى الفضاء، وإلى أعماق البحار، وفوق سطح الأرض، لكن  أحدا لم يجرب الرحلة إلى باطن الأرض..! لماذا لا يفعلها هو إذن؟! رحلة  كهذه جديرة به حقا؛ وهو أستاذ الجيولوجيا المرموق، والعالم الشغوف بالصخور والأحجار.. لذلك لم يكذب الرجل خبرا؛ فبمجرد أن لاحت له  فرصة القيام بتلك الرحلة.. جمع لوازمه وأعد حقائبه وانطلق لخوض ٍ رحلته العجيبة، وبصحبة ابن أخيه أكسل ، وبمعاونة دليل  آيسلندي ٍ ماهر هانز، ولج إلى باطن الأرض عبر فوهة أحد براكين آيسلندا الخامدة، وهناك بالأسفل كانت تنتظرهم العديد من المفاجآت والمواقف العصيبة، ٍ وسط غرائب وعجائب الأعماق؛ من نباتات عملاقة ، وحيوانات منقرضة، ٍ وبحار تحتية...


 ولكن مهلا  .. هل يوجد حقا عالم  تحت سطح الأرض؟! وهل يمكن لأي إنسان أن يذهب إلى هناك ويعود حيا؟..! دعنا نرى ذلك بأنفسنا!


رحلة إلى مركز الأرض رواية شديدة الغرابة من حيث موضوعها  وأجوائها، لكنها قطعة أدبية متميزة  جدا في الوقت نفسه، من حيث أسلوبها، ولما فيها من صور أدبية ووصف رائع ، ولما فيها من خيال، وكثير  من دارسي أعمال جول ڤيرن يرون أنها الأفضل بين رواياته جميعا،  ربما لن يجد قارئ اليوم انبهارا كبيرا في مثل هذا النوع من المغامرات، فهو قد شاهد أشياء أعجب وأغرب، لكن لك أن تتخيل قارئ القرن التاسع عشر  وهو يتلقى هذا النوع من الأفكار، وهذا الجموح في الخيال.. كلنا نعرف  القصة وبعضنا درسها أيضا.. ومهما يكن، فإن ما يهمنا هنا هو التساؤل حول إمكانية القيام بهذه الرحلة.. هل النزول إلى باطن الأرض عبر فتحة ما ممكن عمليا؟!


من الناحية العلمية يؤكد العلماء استحالة ذلك الفرض؛ لأن النزول في ٍ أعماق الأرض لمسافة ثمانية أمتار يزيد الضغط الجوي بمقدار 0,001 مما هو عليه، وبالتالي على مسافة ثمانية وأربعين كيلومترا - العمق الذي بلغه أبطال القصة - يكون الضغط الجوي أكبر بأربعمائة مرة.. وتزداد كثافة الهواء  315مرة، على أنهم خلال أحداث القصة وصلوا إلى عمق 120 كيلومترا، وهو أمر مستحيل ولا يمكن أن يتحمله بشر.


لكن هذا المنطق العلمي لا يقنع البعض.. فحتى وقتنا الحاضر ما  يزال هناك جماعات لديها اعتقاد بأن الأرض مجوفة من الداخل، بل إنهم يصرون على وجود حياة  متطورة  في باطن الأرض، صنعتها حضارات أخرى  متقدمة عنا.. وهم يحددون الفتحات والمنافذ التي تؤدي إلى عالم جوف  الأرض بدقة، فبخلاف القطبين الشمالي والجنوبي المدخلين الرئيسين،   يوجد هناك فتحة داخل الهرم الأكبر في الجيزة، وأخرى عبر مثلث برمودا، حسب زعمهم.


 وكالعادة.. هناك تعتيم متعمد  من قبل وكالة ناسا وكأن ناسا هذه لا عمل لها سوى إخفاء الحقائق عن الناس،  والحكومة الأمريكية، التي  تعرف كل شيء وتتواصل سر ا مع سكان جوف الأرض، بل وأبرمت اتفاقية سرية معهم تحصل بموجبها على مخططاتهم التكنولوجية الهائلة التي يخفونها معهم بالأسفل.


 والغريب أن هذا قاد البعض إلى الاعتقاد بأن الأجسام الطائرة المجهولة،  التي تزور الأرض كما يزعم البعض،  لا تأتي من الفضاء الخارجي كما هو شائع، بل من الفضاء الداخلي أي من جوف الأرض!  هناك أيضا من  يأخذ هذه القناعة على منحى عقائدي  صرف، ويؤكد أن جوف الأرض هي مكان إقامة قوم يأجوج ومأجوج.


بالطبع كل هذه ادعاءات بلا أساس  علمي  جاد ، لكنها تجد دائما من يؤمن بها ويعتنقها ويستميت في الدفاع عنها؛ ورغم أنه قد تم ضحدها منذ سنوات عديدة، إلا أنها على ما يبدو لا تموت بسهولة.

 ولعلنا قد نسأل هنا، وما الذي جعل الناس يعتقدون أن الأرض مفرغة  أصلا!


قد ترجع الجذور الأولى لمثل هذا الاعتقاد إلى وجود الكهوف، وبعضها يتسم بدرجة من الضخامة والتشعب المعقد، حتى أنها لم تكتشف بشكلٍ كامل بعد. ولما كانت بعض الكهوف المعروفة تصل إلى أعماق بالغة، فقد أفسح ذلك المجال لتصور وجود كهوف أعمق في أماكن لم يكتشفها الإنسان. ومن ناحية أخرى فلا شك في أن الفكرة الشائعة عن وجود عالم سفلي تسكنه أرواح الموتى، قد بعثت أيضا على الاعتقاد بأن الأرض مجوفة


وقد تكون الكوميديا الإلهية التي ألفها دانتي من أهم الأعمال الأدبية  التي صورت الأرض مفر غة وبداخلها الجحيم الأخروي، وأخير ا فإن تصور الأرض ككرةم فر غة يتضمن نظرة درامية؛ حيث يفتح الباب على مصراعيه  للخيال، وكتابة القصص المشوقة والمغامرات المثيرة.

 

 وفي عام  ، 1692 اقترح إدموند هالي - مكتشف مذنب هالي الشهير - بأن  الأرض مجو فة، فلقد صورها كقشرتين متحدتين في المركز، ونواة كحجم عطارد تقريبا، يعوما في غاز مضيء تحت القشرة الخارجية التي نعيش  عليها، وتصور هالي أيضا أن هاتين القشرتين ربما تكونان صالحتين للحياة.


 وربما تكون أول قصة عن الأرض المفرغة، هي تلك التي ألفها الكاتب الدنماركي لودفيج هولبيرج  1684ـ    1754باللغة اللاتينية  وقد نشرت في  1741  ، وسرعان ما ترجمتها إلى العديد من اللغات الأوروبية. وقد تصور هولبيرج في هذه القصة وجود شمس صغيرة في مركز الكرة الأرضية يدور حولها عدد من الكواكب الضئيلة بما  يكون نظاما شمسيا مصغرا.


وتناول جون كليف سيمز   1814 - 1742هذه الفكرة بمنظور  علمي، حيث كان ما زال على اعتقاده بأن الأرض ليست كروية، ولكن على  هيئة طريق مقفول ، وأن هناك ثقبين بالغي الضخامة عند القطبين الشمالي  والجنوبي أو بالقرب منهما، وأن الثقبين متصلن ببعضهما، وكان سيمز ينساق وراء هذا الاعتقاد وهو مرتاح البال، حيث كانت المناطق القطبية ّ في ذلك الحين من المجاهل الغامضة، ولم تكن هناك أي وسيلة للتحقق  من صحة وجود هذين الثقبين، وقد بدا كتاب سيمز مقنعا للغاية في ذلك الحين؛ فمن العادات السائدة منذ قديم الأزل، أنه كلما كانت الرواية متسمة بالشطط ازداد ميل الناس إلى تصديقها.


 وقد لاقت الفكرة رواجا عند كتاب الخيال العلمي؛ فهذا ادجار ألان بو  1809ـ    1849يصف في كتاب نشره عام  1833بعنوان العثور على المخطوطة في الزجاجة  ،Ms Found In Bottle محنة سفينة وقعت في  دوامة ضخمة في المناطق القطبية، وكان هناك اعتقاد بأن المحيط يصب مياهه باستمرار في الثقب الشمالي وفقا لنظرية سيمز وكان لا بد من تصور عودة المياه إلى سطح الأرض في مكان آخر، وإلا لكانت المحيطات قد  جفت منذ أمد بعيد. 


ومن أحدث الكتب نسبيا التي دارت حول نفس الموضوع، تلك السلسلة من القصص التي ألفها إدجار رايس بوروز  1875ـ  ، 1950وبدأها بقصة عنوانها في جوف الأرض، ونشرت لأول مرة في عام ،1914 والغريب أنه قد ثبت يقينا منذ عام  1798أن الأرض ليست مفرغة، وأن  سيمز يقول شططا.


 كان أول من حسب كتلة الأرض بدرجة دقة معقولة هو الفيزيائي ّ الإنجليزي هنري كافنديش  1713ـ  ، 1810حيث أعلن في عام 1798  أنها تقدر بزهاء  6 بلايين تريليون طن. وبقسمة ذلك الرقم على مقدار حجم الأرض، يتضح أن متوسط كثافة مادة الأرض يعادل  5518كيلوجراما/ المتر المكعب.


غير أن كثافة الصخور على سطح الأرض تساوي تقريبا 2600كجم/ م ، 3بينما تربو قليل كثافة مياه المحيطات على ألف كجم/ م ،3وبمقارنة84  هذه الأرقام يثبت لنا أن الأرض لا يمكن أن تكون م فرغة، بل العكس هو الصحيح، أي أن جوف الأرض لا بد من أنه يتكون من مواد ذات كثافة تفوق كثيرا كثافة المواد الموجودة على السطح.


ولننظر إلى المسألة بطريقة أخرى، فلو افترضنا أن كتلة الأرض هي 6 بلايين تريليون طن، وأن هذه الكتلة تتركز بطريقة ما في قشرة رقيقة نسبيا تغلف فراغا داخليا.. ماذا كان سيحدث؟ إن قوة الجاذبية بالنسبة لمثل هذا  المقدار من الكتلة ستكون من الضخامة بحيث تؤدي إلى انهيار هذه القشرة ّ وانقباضها وتقلصها إلى كرة أو إلى جسم  بيضاوي، نتيجة الدوران حول  محوره، وبالتالي فمن غير الوارد مطلقا وجود أي تجاويف داخلية، وإلا  كانت الجاذبية قد سحقتها، صحيح أن هناك كهوفا ومغارات، غير أنها لا تمثل إلا ظواهر سطحية بحتة، كنوع من عدم الانتظام في القشرة الأرضية شأنها في ذلك شأن الجبال والوديان.


 ولو تجاهلنا جموح العلماء وكتاب الخيال العلمي، واعتبرنا الأرض بهذه الكثافة، وأنها غير مفرغة، سنجد أنفسنا أمام السؤال الثاني: ما الذي  يتكون منه جوف الأرض؟


 ليست هناك إجابة  سهلة على هذا السؤال، فليس هناك من وسيلة  تمكننا  من أن نتعر ف بشكل مباشر على ماد ة الأرض في أعماق تزيد على بضعة ٍ كيلومترات تحت سطحها؛ فأعمق نقطة تم الوصول إليها في باطن الأرض بواسطة البشر؛ هي بئر كولا العميق  Kola Superdeep Borehole الذي يقع بالقرب من مرمانسك في روسيا، على عمق  12000متر.


ٍ ويشعر العلماء اليوم بشيء من الحرج؛ فبينما هم قد انطلقوا في الفضاء وقطعوا آلاف الكيلومترات فوق سطح الأرض، فإنهم لم يستطيعوا أن  يتعمقوا لأغوار بعيدة في جوف الأرض، ومن ثم نعتقد أن الوصول لمركز الأرض على عمق  6400كم، سيبقى أمرا صعبا لزمن قد يطول نسبيا.


غير أن دراسة سطح الأرض تتيح لنا الخروج ببعض الاستنتاجات  المهمة في هذا السياق؛ فنحن نعرف مثل أن القشرة الأرضية تتسم بطبيعة صخرية، لكن بالنسبة لجوف الأرض فمن الواضح أنه يحتاج إلى مادة أكثر كثافة من الصخور لتتحمل الضغوط العالية.


وبخصوص هذه المادة ظهرت استنتاجات ونظريات عديدة؛ البداية  كانت مع الفيزيائي  الإنجليزي وليم جلبت، الذي افترض أن الأرض  هي كرة مغناطيسي ة  كبيرة، لكن سرعان ما استبعد هذا الاحتمال لصالح ٍ افتراض  آخر يقول إن الأرض كرة  مصمتة من الحديد، إلى أن أوحت النيازك  لعلماء القرن التاسع عشر بأن جوف الأرض قد يكون مكونا من خليط من الحديد والنيكل تماشيا مع تكوين النيازك المعدنية.


  ويتأكد لنا الآن أن الأرض تنقسم إلى غلف  صخري ولب  معدني من الحديد والنيكل، والغلاف الصخري  له هو الآخر طبقة خارجية تسمى  عادة القشرة. ويتكون كل من الغلاف والقشرة من مواد صخرية تختلف في تركيبها الكيميائي؛ فالقشرة تتسم بأنها غنية بسيليكات الألومونيوم، بينما يتميز الغلاف بارتفاع نسبة سيليكات المغنسيوم في تركيبه، وذلك  وفقا للبيانات المستنتجة من الزلازل.


 ظهرت بعد ذلك براهين أكثر دقة على وجود الحرارة الجوفية، فلقد  كانت هي على سبيل المثال المصدر الأكثر ترجيحا لذلك القدر الهائل من  الطاقة الكائنة وراء الزلازل، فضل عن تلك الصخور الموجودة على سطح الأرض، والتي تتسم بنيتها بالشكل البلوري الذي يحتاج إلى درجات حرارة وضغوط بالغة ، بما يوحي بأنها كانت موجودة في وقت من الأوقات علىٍ عمق كبير في جوف الأرض،علاوة على ذلك درجات الحرارة التي ترتفع كلما  ازداد الحفر عميقا بحثا عن المعادن.


 وبغض النظر عن مصدر هذه الحرارة الجوفية، وما إذا كانت نتيجة تحول الطاقة الحركية إلى حرارة بداخلها، أو بسبب تفاعل العناصر المشعة  الموجودة في باطنها، يبقى السؤال مطروحا بشأن حالة المواد في جوف  الأرض وهل هي صلبة  أم سائلة


كانت معظم الآراء حتى عام   1920تميل إلى أنها صلبة ، فقد توصل  العلماء إلى أن الضغط الشديد في جوف الأرض يحفظ المواد في حالتها  الصلبة، غير أن المعلومات الجديدة المستمدة من بيانات الموجات الزلزالية،  قد عززت الاعتقاد لدى الجيولوجيين بأن جوف الأرض يتكون من مزيج من الحديد والنيكل في حالة سائلة.


ّ غير أن هذه الحالة السائلة تخص الجزء الخارجي من الجوف، أو ما  يسمى بـاللب  الخارجي  أما فيما يتعلق بالجزء الداخلي اللب الداخلي،   فتميل الآراء إلى أن الضغوط فيه ربما تكون عالية بدرجة تبعث على تحول مزيج الحديد والنيكل من الحالة السائلة إلى الحالة الصلبة.


إحدى النظري ات تفترض أن اللب الداخلي يحتوي على بلورات معدنية ّ تتوافق مع قطبي الأرض؛ ولذلك تمر الموجات بسرعة أكب باتجاه الأقطاب، وتقدر حرارة اللب الداخلي كحرارة سطح الشمس تقريبا، ويصل الضغط في الداخل إلى  3ملايين ضعف الضغط على السطح.


ويقوم لب  الأرض الصلب والسائل بتوليد المجال المغناطيسي، الذي يحفظ الغلاف الجوي  من اختراق الرياح الشمسي  ة، وهي عبارة عن تيار  غير متوقف من الأجسام المشحونة المنبعثة من الشمس، تصل سرعتها إلى  400كيلومتر في الثانية.


 لا مفر من التغيير في لب الأرض، فالنصفين الشرقي والغربي  من لب  الأرض يتبادلان الأدوار في الذوبان والنمو. هذه الدائرة بالإضافة إلى المجال  المغناطيسي  الواقي المكون عن طريق اللب، هما اللذان يحفظان كوكبنا في ٍ طقس مثالي للحياة، ولو أن الأرض لا تملك هذا اللب المضطرب لأصبح طقسنا كالزهرة.


 هذه هي المعلومات المتوفرة حاليا عن تكوين الأرض.. ما ننتهي إليه إذن ٍ من كل هذا؛ أننا إذا ما أردنا كتابة معالجة صحيحة من الناحية العلمية ٍ لرحلة إلى مركز الأرض؛ فلن تكون هناك عندئذ رحلت إلى مغارات سحيقة  تحت الأرض، ولن تكون هناك ثقوب بالغة العمق ولا عوالم داخلية أو  بحار تحتية  أو ديناصورات أو أهل كهوف ، فالأرض ستكون عندها عبارة  عن مادة جامدة ولا شيء غير المادة طوال الطريق، مع ارتفاع درجات الحرارة بآلاف الدرجات.


 ورغم ذلك فنحن لا نستطيع أن نلقي باللوم على جول ڤيرن، إذا كان  يجهل كل هذا، فهو في النهاية كان مقيدا بالمعتقدات العلمية المحدودة في  عصره؛ لذا فالتهنئة واجبة له؛ لأنه نجح في أن يقرن متعة الغرابة والحلم ٍ بشكل إجمالي مع الأمانة العلمية - التي وإن كان يشوبها بعض الخطأ - ٍ إلا أنها تكفي لتمييزه بشكل  أساسي ، عن جميع كتاب القرن التاسع عشر


كتب المقال محمد خيري الخلل ونشر في مجلة تخيل يناير 2018 منشورات ويلز

Comments

Popular posts from this blog

ماذا ينقص الخيال العلمي العربي ليصبح مرآة مستقبلية؟

ترجمة الفصل الثالث من رواية بوابة المالا نهاية ل مايك كاري