نهاد شريف ارتقى بأدب الخيال العلمي عربياً





(إن الأدب المصري أدب عريق، عظيم، خالد، له أقدام راسخة، وأنا أعشقه وأعشق كُتابه مرهفي الأحاسيس والوجدان، ولكنه في نظري، للأسف، أدب واقعي تقليدي لا يريد أن يترك يومنا الذي نعيشه، ولا يحيد عنه قيد أنملة ولو للحظة، ولقد مللت يومي، مللت واقع حياتي، فأنا أعرفه أكثر من غيري، ولا أحب أن يذكرني به أحد في كل حين، وإنما أنشد شيئاً مغايراً مجدداًلذلك؛ فأنا أهجر أدب الواقع، أدب الحاضر الملموس.. إلى أدب المستقبل الذي سيكون).

هذا مقتطف من رواية (قاهر الزمن) للكاتب الراحل نهاد شريف الذي يتربع على عرش أدب الخيال العلمي العربي.. وعلى الرغم من المحاولات التي سبقته في ذلك المجال، فإنه لم يقم غيره بالتوغل في ذلك المجال ولم يكرس غيره عمره راهباً مخلصاً لذلك اللون من الأدب، فلقد ترك لنا حصيلة كبيرة على مدار سنوات عطائه، من ستينيات القرن الماضي وحتى رحيله في (4 يناير 2011م)، ما بين القصة القصيرة والرواية والمسرحية, وكذلك المقالات والكتب التي ترتكز موضوعاتها على أدب الخيال العلمي.


لم تكن أعمال نهاد شرف الأدبية في مجال الخيال العلمي ناتجة بمحض المصادفة أو الدراسة، فقد هيأت له الظروف منذ نعومة أظفاره في تحديد هويته واتجاهاته الفكرية، ونزوعه نحو حرية الخيال، فلقد لعبت مرحلة الطفولة دوراً مهماً في إطلاق العنان لخياله عن طريق حكايات الجدة التي كانت ترويها له، ويروي في أحد حواراته عن تلك المرحلة (استطاعت جدتي أن تحتوي عقلي الطفل بحكايات الشاطر حسن والسندباد وعلاء الدين وعبد الله البري وقرينه البحري، وسيل لا ينضب من أساطير ألف ليلة وليلة. وكانت لديها مقدرة فذة وهي التي لا تحمل أي مؤهل دراسي على أن تروي لي القصة بأكثر من صورة حتى لا ينتابني السأم, بل إنها كانت تضيف بعض التفاصيل الصغيرة الجديدة في كل مرة تروي لي هذه الحكايات، مما خلق لدي القدرة على تعدد الرؤى).


أما بالنسبة لما كان لذلك من أثر فيه فيقول: (ثم بدأت محاولة تقليد ما تحكيه لي كتابة متأثراً بإلقائها الرصين, ومقلداً أسلوب أبي، في رسوماته وألوانه الحية التي انطبعت في وجداني عندما كان يأخذني إلى مرسمه الخاص، لأكون له عيناً محايدة وناقدة، وبدأت أيضاً بالتسلل إلى مكتبة جدي، لأصحب (كامل كيلاني) في مؤلفاته العلمية المبسطة للأطفال، ولأتطاول بعدها في شغفي بالقراءة لابن خلدون، والمعري، وابن طفيل، وتشيخوف، وديكنز، وجول فيرن، وويلز، وهربرت جورج، وكونان وغيرهم..).


ونجد أيضاً عاملاً بالغ الأثر في توجيه فكر وخيال نهاد شريف، وهو عامل المكان فيذكر لنا: (عندما كنت في الرابعة عشرة كانت متعتي الكبرى تتركز في اصطحاب قريب لي يعمل في مرصد حلوان، حيث كنت أتابع في هدوء واهتمام مناقشات بعض علماء المرصد، وخاصة الدكتور (سماح) الذي كان أحد كبار أساتذة علم الفلك في مصر، والذي كان لا يتردد في الإجابة عن أي سؤال كنت أطرحه.. وقد قيل عني آنذاك إن هذا الصغير قد أطل من مناظير المرصد أكثر من العلماء العاملين فيه.. وقد ظلت هذه التجربة الفريدة عالقة في نفسي، حتى قمت بتسجيل آثارها في روايتي الأولى، (قاهر الزمن)، والتي تدور أحداثها في مرصد حلوان).


يروي نهاد شريف أن رحلة البحث عن الذات استمرت سنوات عديدة، بداية من مرحلة المراهقة الفكرية التي كتب وقتها قصصاً قصيرة مثل (الجارة الحسناء، ورسالة إلى طيفها)، وفي عام (1954م)، انضم إلى القسم العلمي بمجلة (آخر ساعة) بتشجيع من الكاتب الصحافي الكبير صلاح جلال، ومع ذلك لم يجد نفسه في العمل الصحافي.. كان ذلك أثناء دراسته في كلية الآداب قسم التاريخ. الذي قام بعد التخرج فيه بالعمل في مديرية التحرير مديراً للثقافة والإرشاد, حيث قام بإنشاء مجلة محلية أسهمت في خلق كوادر ثقافية. وفي عام (1963م)، بدأ مرحلة جادة في البحث عن الذات، وذلك من خلال تعاونه مع الإذاعة والتلفزيون من خلال العديد من البرامج. ولقد حقق نجاحاً في كل مجالات العمل التي عمل بها، ولكنه كان دائماً يشعر بأن شيئاً ما لم يكتمل بداخله.


يقول عن ذلك، وظلت أفكاري وأحلامي تؤرقني وتحرضني، وتباعد بيني وبين أقراني وأفراد أسرتي.. حتى توصلت في النهاية إلى أن هناك أدباً عالمياً مميزاً.. أو عالماً سحرياً يسمى أدب الخيال العلمي.. فلما أعدت اكتشاف كُتاب هذا الأدب وألفت مجالات نشاطاتهم الذهنية، وجدت الشجاعة أخيراً لأعبر عن أحلامي وخيالاتي).


بعد كل المحاولات السابقة في البحث عن الذات.. عن الهوية الفكرية.. تخرج إلى النور باكورة أعماله الأدبية رواية (قاهر الزمن) تلك الفكرة العلمية، التي ظلت تراوده سنوات طويلة، فقد أعلن فيها عن اتجاهه الجديد في الأدب.. قال عنها الكاتب الكبير يوسف الشاروني.. (تتميز رواية (قاهر الزمن) بعنصر التشويق الذي يشد القارئ بل يبهره في كل سطر يقرؤه, وبذلك يحقق جوهرية من مهام الفن القصصي. كما يتميز الأسلوب بالبساطة والوضوح، فضلاً عن أنه اكتشف بنفسه ولنفسه أرضاً نادراً ما ارتادها غيره في أدبنا المحلي).


وقد قدر لهذا الرواية أن ترى النور عام (1972م) بعد حصولها على الجائزة الأولى من نادي القصة عام (1969م)، وميدالية يوسف السباعي الذهبية عام (1970م).. وتوالت بعد ذلك أعماله في مجال أدب الخيال العلمي.. فنجد في القصة القصيرة المجموعة القصصية (رقم 4 يأمركم, الماسات الزيتونية، الذي تحدى الإعصار) وقصص أخرى، وفي مجال الرواية (الشيء، ابن النجوم، سكان العالم الثاني) وغيرهما، ولكن في مجال الكتابة المسرحية لم يترك لنا سوى عمل واحد فقط وهو مسرحية (أحزان السيد مكرر). وكان آخر أعماله الأدبية، التي خرجت للنور رواية (تحت المجهر) في عام 2006م.


يرى نهاد شريف أن تنمية الخيال ضرورة ملحة منذ الطفولة، فالمخيلة أو ملكة التخيل والتصور هي واحدة من القوى الأساسية الفعالة وراء كل إبداع علمي وفني.. وكما هو الحال مع كل موهبة، فإن المخيلة تحتاج دون شك إلى تدريب وتهذيب ورعاية منذ الطفولة. والبيت هو المدرسة الأولى، التي تنشأ فيها ملكات الطفل، وفيه يتعلم (فن الخيال) ضمن فنون أخرى متعددة، مثلما يتعلم المشي والكلام والآداب العامة.


يقول الشعراء (إن الخيال هو الذي يضفي قيمة ومعنى على خبراتنا، وهو الذي يثري مفاهيمنا، ويرتقي بسلوكنا)، ومن هنا يتضح مدى أهمية الخيال في التربية؛ فالأطفال قد يصعب حثهم على تعميق الشعور، في حين يسهل تدريبهم على الرؤية والسماع بكيفية تثير قدراتهم الإبداعية، فالخيال كما قال الشاعر وليم بليك هو (الصفة التي تجعل من الممكن أن نرى من خلال الشيء لا مجرد سطحه)...


ولأدب الخيال العلمي دور كبير في تطوير عقلية ومخيلة النشء, فهو طاقة فعالة توسع آفاق الخيال لدى الطفل، وتدربه على استخدام مخيلته، وتحريك عناصرها في الأوقات الملائمة، لاستغلال تفاعلها الخلاق وعطائها المبدع. كما أن أدب الخيال العلمي في المقام الأول، هو أداة تثقيف وأداة تعريف ذكية، ومحببة لجميع أنواع العلم ومختلف استخداماته وحيله وآفاقه، وكلما استمتع الطفل بقراءة أدب الخيال العلمي، اتسعت مداركه واعتاد عقله على التفكير الواعي المتحرر.


نشر المقال ل  هبة الله إبراهيم في موقع مجلة الشارقة الثقافية في مارس 2021

Comments

Popular posts from this blog

ماذا ينقص الخيال العلمي العربي ليصبح مرآة مستقبلية؟

ترجمة الفصل الثالث من رواية بوابة المالا نهاية ل مايك كاري